Sabtu, 22 Oktober 2016

مراقى العبودية شرح على بداية الهداية للإمام الغزالي



مراقى العبودية
شرح
على بداية الهداية للإمام الغزالي

تأليف
لمحمد نووي بن عمر
البنتني الجاوي

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله جل وعلا، أحمده لجميع الأيادي والآلا، وأشكره شكر من عوفي من البلا، وأستغفره لي ولوالدين ولمن له حق علي، وللمسلمين من كل ذنب قولاً وفعلاً، وأتوب إليه من كل معصية توبة عبد لا يملك لنفسه هدى، ولا يستطيع أن يدفع عنها ضلالاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له ولا مماثلا، وأشهد أن سيدنا محمداً نبيه ورسوله ذو المقام الأعلى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الذي اختص الله به فضائلا، وعلى آله الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا بما قالا، وأصحابه الذين فازوا بالاقتداء بالجهاد وغيره، فنالوا الدرجات العلا.
     (أما بعد): فهذا شرح على بداية الهداية سميته (مراقي العبودية) أرجو به حصول بركة الشيخ المصنف ودعاء طلبة العلم ممن ينتصف، وليس لي في هذا إلا الجمع من كلام العلماء الأجلاء بحسب ما أطلعني الله عليه، فإذا رأيت فيه شيئاً من الخلل، فمن وهم صدر من سوء فهمي، فالمطلوب ممن علم ذلك أن يصلحه، فإن بضاعتي من العلم والدين مزجاة، وإيماني أضعف الإيمان لنقص اليقين مع ضيق الوقت وكثرة الأحزان، فرحم الله أمرأً رأى عيباً فستره، وإلى الله الكريم أمد أكف الابتهال أن لا يجعله حجة على يوم ظهور الأهوال، وأن ينفع به نفسي ومثلي من الجهال إنه تعالى رؤوف جواد يعطي النوال وإليه التفويض والاعتماد، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد آمين.
     (بسم الله الرحمن الرحيم) كلمات البسملة أربع، ففيها إشارة إلى إعانة الله تعالى عباده المسلمين على الشيطان، فإنه قال: لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فأعطاهم الله تعالى هذه الكلمات الأربع لئلا تضرهم وسوسته، وإشارة إلى أن معاصي المؤمنين في أربعة أوجه: في السر والعلانية والليل والنهار، فأعطاهم هذه ليغفرها لهم بها. ثم إن معاني الحروف أن الباء براءة الله لأهل السعادة، والسين ستر الله على أهل الجهالة، والميم محبته لأهل الإسلام، والألف ألفته، واللام لطافته، والهاء هدايته، والراء رضوانه على السابقين والتائبين، والحاء حلمه على المذنبين، والميم منته على المؤمنين، والنون نور المعرفة في الدنيا ونور الطاعة في العقبى، فأعطاهما لعباده المتقين، والياء يد الله أي حفظه على أهل الإسلام
     (قال الشيخ الإمام) أي المقتدى به (العالم العلامة) أي العالم جداً فالهاء للمبالغة (حجة الإسلام) فالحجة من أحاط بأكثر السنة، ولم يفته منها إلا اليسير، وأما الحافظ فهو من أحاط بمائة ألف حديث، والحاكم من أحاط بثلاثة آلاف حديث (وبركة الأنام) زين الدين (أبو حامد محمدبن محمدبن محمد) ولد رضي الله عنه بطوس سنة خمسين وأربعمائة وتوفي بها صبيحة يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة، فكان عمره خمساً وخمسين سنة (الغزالي) بتخفيف الزاي نسبة إلى غزالة قريبة من قرى طوس (الطوسي) بضم الطاء نسبة إلى طوس بلدة من أعمال نيسابور (قدس الله روحه ونور ضريحة) أي قبره (آمين) أي استجب يا الله (الحمد لله) أي كل حمد لله، فيدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وسكان أطباق السموات، وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام، وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق (حق حمده) أي أعمه وأنهاه بالإجمال، وأما بالتفصيل فيعجز الخلق عنه (والصلاة والسلام على خير خلقه محمد رسوله) إلى كافة الخلق (وعبده) صاحب المناقب، وقد نظم بعضها بعضهم من بحر البسيط بقوله:
لَمْ يَحْتَلِمْ قَطُّ ط?هَ مُطْلَقاً أَبَداً >< وَمَا تَثَاءَبَ أصْلاً في مَدَى الزَّمَنِ
مِنْهُ الدَّوَابُ فَلَمْ تَهْرُبْ وَمَا وَقَعَتْ >< ذُبَابَةٌ أَبَداً في جِسْمِهِ الحَسَنِ
بِخَلْفِهِ كَأَمَامٍ رُؤْيَةٌ ثَبَتَتْ >< وَلاَ يُرَى أثرُ بَوْلٍ مِنْهُ في عَلَنِ
وَقَلْبُهُ لَمْ يَنَمْ وَالعَيْنُ قَدْ نَعَسَتْ >< وَلاَ يرَى ظِلَّهُ في الشَّمْسِ ذو فِطَنِ
كتفاهُ قَدْ عَلَتا قَوْماً إِذا جَلَسُوا >< عِنْدَ الولادَةِ صِف يا ذا بمختتنِ
هذي الخصائصُ فاحفظها تكنْ أمِناً >< مِنْ شَرِّ نَارٍ وَسُرَّاقٍ وَمِنْ مِحَنَ
(وعلى آله وصحبه من بعده. أما بعد فاعلم أيها الحريص) أي المجتهد (المقبل على اقتباس العلم) أي استفادته من المعلم، وفي نسخة اقتناص العلم بالنون، ثم الصاد أي اصطياده، فحينئذ شبه العلم بالصيد في كون كل يحتاج إلى الحيلة والسياسة (المظهر من نفسه) وفي نسخة من نفسك بالخطاب (صدق الرغبة) أي الإقبال (وفرط التعطش) أي شدة الاشتياق (إليه) أي العلم (أنك) معمول لا علم (إن كنت تقصد بطلب العلم المنافسة) بالفاء والسين المهملة، أي الرغبة في التفرد بالعلم لأنه نفيس جداً (والمباهاة) أي الافتخار الذي هو التعاظم (والتقدم على الأقران) أي الأمثال الذين يعادلونك في طلب العلم (واستمالة) أي طلب اقبال (وجوه الناس إليك وجمع حطام الدنيا) أي متاع الدنيا الذي يصير آخره فانياً، والإكرام عند السلطان (فأنت ساعٍ) أي متصرف (في هدم دينك وإهلاك نفسك) بإقبالك على غضب الله تعالى (وبيع آخرتك بدنياك فصفقتك) أي عقدك في ذلك البيع (خاسرة) أي ناقصة، لأن الدنيا في مقابلة ثواب الآخرة لا شيء (وتجارتك) أي تصرفك فيه (بائرة) أي هالكة لا خير فيها، وهذا كناية عن عدم النفع بذلك العلم (ومعلمك معين لك على عصيانك وشريك لك في خسرانك وهو كبائع سيف من قاطع طريق) من بمعنى اللام (كما قال صلى الله عليه وسلم: من أعان على معصية ولو بشطر كلمة) نحو أق من اقتل (كان) أي المعين (شريكاً له فيها) وفي الحديث طلب العلم فريضة على كل مسلم، ووضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجواهر واللؤلؤ والذهب، أي إن واضع العلم في غير موضعه ظالم فيجب أن يكون العالم ناصحاً في جميع الأمور يعامل كل الناس على حسب حاله، كالطبيب يعالج كل مريض بما يناسب علته.
     (حكاية) وروي عن معروف الكرخي أنه قال: لما مات أبو يوسف صاحب أبي حنيفة لم يكن من الناس أحد حضر جنازته، لأنه كان يدخل في أمر السلطان، فرأيته في المنام قبل أن يدفن فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ربي. قلت: بماذا؟ قال: بنصحي للمتعلمين، فانتبهت من النوم فشهدت جنازته (وإن كانت نيتك وقصدك بينك وبين الله تعالى من طلب العلم الهداية) بأن تنوي بتحصيله إزالة الجهل عن نفسك، وعن سائر الجهال، وإحياء الدين وإبقاء الإسلام بالعلم الدار الآخرة ورضا الله تعالى، وتنوي بذلك الشكر على نعمة العقل ونعمة صحة البدن (دون مجرد الرواية) أي الحمل والنقل عن العلماء (فأبشر فإن الملائكة تبسط لك) أي رضا بما تطلب (أجنحتها) أي تضعها لتكون وطاء لك (إذا مشيت) وقيل إن الملائكة تظلل طالب العلم بأجنحتها (وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت) أي ذهبت إلى العالم، وذلك لأن صلاح العالم منوط بالعالم بتبليغه الأحكام الشرعية التي منها أن الحيوان يحرم تعذيبه، كما أفاده العزيزي، وعلامة ذلك القصد أن يكون بحث العلم في الخلاء أحب إليك أن يكون في الملأ، وأن لا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك.
     (حكاية نفيسة) وقع للعلامة منعوش المغربي في درسه إشكال، وقد حضر مجلسه أئمة المذاهب الأربعة، فاعترض قول الشافعي وهو إذا دخل شرط على شرط، فلا يوجب الحكم إلا بتقديم المؤخر، نحو إن كلمت: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فلا يقع طلاق عنده إلا بالدخول. فقال ذلك الشيخ: لم نر لهذا القول دليلاً في كلام العرب. فقال له حمدان، وهو يومئذٍ صغير، ما قاله الإمام الشافعي، هو الحق فزجره الناس من كل جانب لصغره فقال الشيخ: دعوه فإنه ليس بيننا وبين الحق خصومة، وإن كان من صغير ومن خصوصيتنا قبول الحق، ولو من صغير، ورد الصغير على الكبير في الحق بخلاف الأمم السابقة إذا أخطأ الكبير لم يتجاسر أحد على الرد عليه، فيصير خطؤه شريعة يعمل بها في الكون، ثم التفت الشيخ إلى حمدان وقال: قل ما عندك. فقال له ما تقول في قول الشاعر من بحر البسيط:
إنْ يَسْتَغِيثُوا بِنَا إنْ يُذْعرُوا يَجِدُوا >< مِنَّا مَعَاقِدَ عِزَ زَانَهَا كَرَمُ
فإن الاستغاثة إنما يحتاج لها بعد الخوف لا قبله. وما قاله الشافعي هو الحق ويشهد له كلام العرب، فتبسم الشيخ وفرح بذلك وقال: صدقت يا ولدي، ودعا له. قال الشيخ حمدان: ولم أكن أهلاً للرد إلا أني ظننت أن الإمام الشافعي هو الذي حرك لساني بالكلام، وما أحسن ما قيل من بحر الطويل:
وَكَمْ مِنْ صَغِيرٍ لاحَظَتْهُ عِنَايَةٌ >< مِنَ الله فاحْتَاجَتْ إِلَيْهِ الأكابِرُ
(ولكن ينبغي) أي يطلب (لك) العبادة مع العلم وإلا كان علمك هباء منثوراً، فإن العلم بمنزلة الشجرة والعبادة بمنزلة ثمرة من ثمراتها، فيجب عليك أولاً أن تعرف المعبود، ثم تعبده، وكيف تعبد من لا تعرفه بأسمائه وصفات ذاته وما يجب له وما يستحيل في نعته، فربما تعتقد فيه وفي صفاته شيئاً مما يخالف الحق، فتكون عبادتك هباء منثوراً، وذلك بأن تعرف أن لك إلهاً عالماً قادراً مريداً حياً متكلماً سميعاً بصيراً، منفرداً بالقدم عن كل محدث، واحداً لا شريك له، متصفاً بصفات الكمال، منزهاً عن النقصان والزوال ودلالات الحدوث، وأنه أرسل عبده سيدنا محمداًصلى الله عليه وسلم، فهو رسوله الصادق فيما جاء به من الأحكام، وفيما أخبر به من مور الآخرة كالحشر والنشر وعذاب القبر، وسؤال منكر ونكير والميزان والصراط والجنة والنار، والحوض والشفاعة وغير ذلك ثم يطلب منك (أن تعلم قبل) الشروع في (كل شيء) أي عمل مطلوب شرعاً (أن الهداية) أي سلوك الطريق إلى الله تعالى (التي هي ثمرة العلم لها بداية) وهي المسماة بالشريعة والطريقة (ونهاية) وهي المسماة بالحقيقة لأن حقيقة الشيء منتهاه، وهي ثمرة الشريعة والطريقة معاً كما قال شيخ الإسلام، وثمرة الطريقة فقط على ما قاله الصاوي (وظاهر وباطن) فإن كل باطن له ظاهر وعكسه، فالشريعة ظاهر الحقيقة والحقيقة باطنها وهما متلازمان معنى، فشريعة بلا حقيقة عاطلة، أي خالية من الثمرات وحقيقة بلا شريعة باطلة، أي لاغية لا خير فيها ولا حاص لها، قال بعضهم نظماً من بحر البسيط:
بَلِ التَّصَوُّفُ أنْ تَصْفَو بلا كَدَرٍ >< وَتَتْبَعَ الحَقَّ وَالقُرْآنَ والدِّينَا
وَأَنْ تُرَى خَاشِعاً لله مُكْتَئِباً >< عَلى ذُنُوبِكَ طُولَ الدَّهْرِ مَحْزُونا
     قال الصاوي: والشريعة هي الأحكام التي كلفنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا من الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات والجائزات. وقيل: هي الأخذ بدين الله تعالى والقيام بالأمر والنهي، والطريقة هي العمل بالواجبات والمندوبات، والترك للمنهيات والتخلي عن فضول المباحات والأخذ بالأحوط كالورع، وبالرياضة من سهر وجوع وصمت، والحقيقة فهم حقائق الأشياء كشهود الأسماء والصفات، وشهود الذات وأسرار القرآن، وأسرار المنع والجواز، والعلوم الغيبية التي لا تكتسب من معلم، وإنما تفهم عن الله كما قال تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً} (الأنفال:29) أي فهماً في قلوبكم تأخذونه عن ربكم من غير معلم. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُم اللَّهُ} (البقرة:282) أي بغير واسطة معلم كما قال الإمام مالك رضي الله عنه: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، فأفاد بهذه الكلمات الشريعة والطريقة والحقيقة، فأشار بقوله: علم إلى الشريعة. وبقوله: عمل إلى الطريقة، وبقوله: ورثه الله علم ما لم يعلم، إلى الحقيقة اهـ  (ولا وصول) لك أيها السالك (إلى نهايتها) أي العبادة (إلا بعد إحكام) بكسر الهمزة أي ثبات (بدايتها) بأن تصح منك البداية التي هي الشريعة مع ملازمتك لها بالجد (ولا عثور) بالثاء المثلثة أي لا علم وفي نسخة لا عبور بالباء الموحدة، أي لا مرور (على باطنها إلا بعد الوقوف) أي المشاهدة (على ظاهرها) ومثل بعضهم الشريعة بالسفينة، والطريقة بالبحر والحقيقة باللؤلؤ، فلا يتحصل اللؤلؤ إلا من البحر ولا يتوصل إلى لجة البحر إلا بالسفينة، ومثل بعضهم هذه الثلاثة بالنرجيل، فالشريعة كالقشر الظاهر، والطريقة كاللب، والحقيقة كالدهن الذي في باطن اللب، فلا يتحصل الدهن إلا بعد دق اللب، ولا يتوصل إلى اللب إلا بخرق القشر. ويقال للشريعة عادة، وللطريقة عبودية، وللحقيقة عبودة. قال أو علي الدقاق: العبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص، والعبودة لخاص الخواص. وقال شيخ الإسلام: فالصابر على مراد الله وهو حامل النفس على مشاق التكليف لطلب الجزاء عليه في مقام العبادة، والراضي أي المطمئن بمراده تعالى في مقام العبودية، والعارف في مقام العبودة.
     (وها) للتنبيه (أنا مشير عليك) أيها المريد للخير (ببداية الهداية لتجرب بها نفسك) أي الأمارة أو غيرها (وتمتحن بها قلبك) ومعنى تجرب وتمتحن واحد وهو تختبر مرة بعد أخرى (فإن صادفت) أي وجدت (قلبك إليها) أي بداية الهداية (مائلاً) أي محباً (ونفسك) التي في قلبك (بها) أي البداية (مطاوعة) أي منقادة (ولها قابلة) أي راضية في أخذها (فدونك) أي خذ ذلك (التطلع) أي الارتقاء (إلى النهايات والتغلغل) بالغينين وبالفاءين أي الدخول والسير (في بحار العلوم) أي علوم الأسرار اللدنية التي كالبحار في عمقها (وإن صادفت قلبك عند مواجهتك) أي استقبالك (إياها) أي بداية الهداية وفي نسخة إياه: أي القلب (بها مسوفاً) بأن يقول القلب مرة بعد أخرى سوف أفعل ذلك (وبالعمل بمقتضاها) أي بمطلوبها (مماطلاً) أي مؤخراً بوعد.
     (فاعلم) أيها الطالب للعلم (أن نفسك الماثلة إلى طلب العلم هي النفس الأمارة بالسوء وقد انتهضت) أي قامت النفس لطلب العلم (مطيعة للشيطان اللعين) أي المبعد من الخير (ليدليك) أي ليوصلك (بحبل غروره) بضم الغين أي خديعته (فيستدرجك) أي يأخذك قليلاً قليلاً (بمكيدته) أي حيلته (إلى غمرة الهلاك) أي شدته (وقصده) أي الشيطان (أن يروج) أي يسلك (عليك الشر في معرض الخير) أي مسلكه وطريقه (حتى يلحقك بالآخسرين أعمالاً) أي الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلاً فنالوا هلاكاً (الذين ضل) أي ضاع (سعيهم في الحياة الدنيا) لاتباعهم الشيطان (وهم يحسبون) أي يظنون (أنهم يحسنون صنعاً) أي عملاً يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق (وعند ذلك) أي قصد الشيطان تسليك الشر في طريق الخير (يتلو عليك الشيطان فضل العلم) أي النافع (ودرجة العلماء) أي العاملين بميزان الشرع (وما ورد فيه) أي العلم (من الأخبار) وهي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم (والآثار) وهي أقوال الصحابة والتابعين كما قال صلى الله عليه وسلم: "نَظْرَةٌ إِلى الَعَالِمِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ صِيامِها وَقِيامِها" وقال: الناس عالم ومتعلم والباقي همج، أي ذباب صغير كالبعوض يقع على وجوه الحمير والغنم المهزولة. وقال: فضل العالم على العابد سبعون درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وقال: من لم يحزن بموت العالم فهو منافق، فإنه لا مصيبة أعظم من موت العالم. وقال: إن العمل القليل مع العلم ينفع وإن العمل الكثير مع الجهل لا ينفع.
     وقال عمر رضي الله عنه: موت ألف عابد قائم بالليل صائم بالنهار، أهون من موت عالم واحد يعلم ما أحل الله وما حرمه، وإن لم يزد على الفرائض. وقال الربيع: العلماء سرج الأزمنة، فكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل زمانه. (ويلهيك) أي يجعلك الشيطان غافلاً (عن قوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ ازْدَادَ عِلْماً وَلَمْ يَزْدَدْ هَدَىً لَمْ يَزْدَدْ مِنَ آلله إِلاَّ بُعْداً) يغفلك الشيطان أيضاً (عن قوله صلى الله عليه وسلم: أَشَدُّ الناسِ عَذَابَاً) أي تعذيباً (يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ) أي لم يعمل به رواه الطبراني وعبداللهبن عدي والبيهقي عن أبي هريرة، لكن بلفظ لم ينفعه علمه (وكانصلى الله عليه وسلم يقول) كثيراً في الدعاء تعليماً لأمته (اللَّهُمَّ إِني أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ) وهو ما لا يصحبه عمل وما لا يؤذن في تعلمه شرعاً، أو ما لا يهذب الأخلاق (وَقَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ) أي لذكرك ولا لسماع كلامك وهو القلب القاسي (وَعَمَلٍ لاَ يَرْفَعُ) أي رفع قبول لرياء أو فقدٍ نحو إخلاص لكون صاحبه مغضوباً عليه (وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ) أي لا يقبله الله ولا يعتد به، فكان غير مسموع لخبث صاحبه، وفي رواية: لا يستجاب، رواه أحمدبن حنبل ومحمدبن عبدالله الحاكم عن أنس، لكن بإسقاط وقلب لا يخشع (و) يغفلك الشيطان أيضاً (عن قوله صلى الله عليه وسلم: مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (بأقوامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بمقارِيضَ مِنْ نارٍ فَقُلْتُ مَنْ أنتمَ قالوا كُنَّا نأمُرُ بالخيرِ ولا نأتِيهِ) أي لا نفعله (وَنَنْهَى عن الشَّرِّ ونأتيهِ) وفي السراج المنير للشربيني، روي عن أنسبن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي رجالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَاريضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْتُ: مَنْ ه?ؤُلاءِ يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: ه?ؤلاءِ الخُطَبَاءُ مِنْ أمَّتِكَ يأمُرُونَ النَّاس بِالبرِّ وَيَنْسَوْنَ أنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُوَنَ الكِتَاب"
     (فإياك) أي فاحذرك (يا مسكين) أي يا أيها الذليل الضعيف الذي لا فطنة له (أن تذعن) بضم التاء وكسر العين، أي تنقاد (لتزويره) أي لتزيين الشيطان الكذب عليك (وتتدلى) أي تصل وفي نسخة فيدليك (بحبل غروره) وإذا كان تعلم العلم والسؤال عنه واجباً لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} أي العلم إن كنتم لا تعلمون، فالعمل بالعلم بعد العلم واجب (فـ) يقال (ويلي) أي عذاب وهلاك أو واد في جهنم كما قال الشربيني (للجاهل حيث لم يتعلم مرة واحدة) في عمره كله (وويل للعالم حيث لم يعمل بما علم ألف مرة) أي مثلاً ويقال أيضاً: ويل للعالم حيث لم يعمل بما علم سبعين مرة، فقوله ألف مرة يتعلق بقوله لم يعمل، وكذا قوله مرة فهو متعلق بقوله لم يتعلم، وهو أظهر وأحسن، ويجوز أن يكون كل من الظرفين متعلقاً بقوله ويل في الموضعين إذا كان بمعنى عذاب أو هلاك، ولا يجوز ذلك إذا كان بمعنى واد، لأنه اسم ذات وحينئذٍ يكون عذاب العالم أعظم من عذاب الجاهل. نعم هو بحسب العدد فقط دون الهيئة، فيمكن أن يكون العذاب الواحد أشد من الألف بأضعاف، وأيضاً إن العالم إذا ترك واجباً أو فعل محرماً ويعذبه الله تعالى أن يكون تعذيبه تعالى له تطهيراً له كذا قال بعضهم. وعلى هذا المعنى ما يقال: الزبانية تسرع للعلماء غير العاملين قبل عبدة الأوثان، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العَالِمُ حَبيبُ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ فَاسِقاً، والجَاهِلُ عَدُوُّ اللَّهِ وَلَوْ كانَ عَابِداً".
     (وحكي) أن بعض الناس اختلف في شرف العالم الفاسق وشرف الجاهل العابد، فخرج أحد منهم، وذهب إلى صومعة العابد الجاهل فقال: يا عبدي قبلت دعوتك، وغفرت لك ذنبك، فاترك العبادة واسترح. فقال العابد: إلهي إني أرجو منك هذا، وإني أحمدك وأشكرك وأعبدك من زمان كذا، فصار مخطئاً وكافراً بجهلهه، ثم ذهب أحد منهم إلى العالم الفاسق، فإذا هو يشرب الخمر فقال: يا عبدي اتق مني وأنا ربك أستر ذنبك وأنت لا تستحي مني، فإني أريد أهلكك، فسل العالم الفاسق سيفه، وخرج من مكانه فقال: يا ملعون أنت لا تعلم ربك، فإني أعلمك ربك الآن ففر ذلك القائل، فعلم بذلك شرف العلم وأهله.
    (واعلم) أيها المريد لطلب العلم (أن الناس في طلب العلم على ثلاثة أحوال) أي مراتب (رجل طلب العلم ليتخذه) أي ليجعله (زاده إلى المعاد) أي الآخرة فإنها معاد الخلق (ولم يقصد به إلا وجه الله والدار الآخرة فهذا) أي الرجل (من الفائزين) أي الناجين من عذاب الله تعالى اللاحقين بالخير، وعلامة عالم الآخرة ثلاثة: وهي عدم طلب الدنيا بالعلم، وكون قصده بالاشتغال بالعلوم نيل سعادة الآخرة، فيكون معتنياً بعلم الباطن سائساً لقلبه بمجاهدة النفس، وكون اعتماده في العلوم على اتباع صاحب الشريعةصلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله، وعلامة عدم طلب الدنيا بالعلم أن يكون أول عامل بالأمر ومجتنب للنهي، وأن يكون مجتنباً ترفه مطعم ومسكن وملبس، وأن يكون منعزلاً منقبضاً عن مخالطة السلطان إلا لنصح له أو لرد مظالم إلى أربابها أو للشفاعة في مرضاة الله تعالى، وأن لا يكون مسارعاً إلى الفتاوى كأن يدل على من هو أعلم منه، كما روي عن شريحبن هانىء قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن المسح على الخفين. فقالت: عليك بعليبن أبي طالب فاسأله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه. وكما روي عن سعدبن هشامبن عامر أنه أتى ابن عباس يسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة. فائْتها فاسألها عن ذلك. وكما روي عن عمرانبن حطان، قال: سألت عائشة عن الحرير فقالت: ائتِ ابن عباس فاسأله، فسألته. فقال: سل ابن عمر. فسألت ابن عمر فقال: أخبرني أبو حفص وهو عمربن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّما يَلْبَسُ الحَرِيرَ في الدُّنْيَا مَنْ لا خلاقَ لهُ في الآخِرَةِ" وهذا كله من النصيحة. (ورجل طلبه) أي العلم (ليستعين به على حياته) أي الرجل الثاني (العاجلة) أي الحاضرة (وينال به) أي العلم (العز) أي القوة والكرم (والجاه) أي القدر والمنزلة (والمال وهو عالم بذلك) أي بسبب ذلك الغرض (مستشعر) أي مضمر (في قلبه ركاكة حاله) أي ضعف قلبه فقوله ركاكة معمول لعالم ومستشعر (وخسة) أي دناءة (مقصده) بفتح الصاد أي مقصوده
     (فهذا) أي الرجل (من المخاطرين) أي المقربين أنفسهم على خطر هلك (فإن عاجله) أي أخذه بلا مهلة (أجله) أي وقته الذي يموت فيه (قبل التوبة) من ذلك الغرض (خيف عليه سوء الخاتمة) وهو الموت بغير الإيمان نعوذ بالله منها (وبقي أمره) أي حاله (في خطر المشيئة) لله تعالى فإن شاء عفا عنه وإلا فلا (وإن وفق) بالبناء للمفعول أي وجه (للتوبة قبل حلول) أي انتهاء (الأجل) أي مدة الموت (وأضاف) أي ضم (إلى العلم العمل وتدارك ما فرط) أي قصر (فيه من الخلل) أي الفساد في أمره (التحق بالفائزين فإن التائب) الفاء للتعليل (من الذنب كمن لا ذنب له) كما في الحديث (ورجل ثالث استحوذ) أي غلب (عليه الشيطان فاتخذ علمه ذريعة) أي وسيلة (إلى التكاثر) أي المكاثرة (بالمال والتفاخر) أي المباهاة (بالجاه والتعزز) أي صيرورة القوة (بكثرة الأتباع) بفتح الهمزة جمع تبع كسبب وأسباب و(يدخل بعلمه كل مدخل) أي يمكر بعلمه مكراً كثيراً قال ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم، أي مكراً وخديعة (رجاء أن يقضي) أي يبلغ وينال (من الدنيا وطره) أي حاجته (وهو) أي الرجل الثالث (مع ذلك) أي جعل العلم وسيلة إلى تلك الأغراض (يضمر في نفسه) أي قلبه (أنه عند الله بمكانة) بالتاء المربوطة كما قاله شيخنا يوسف السنبلاويني، أي عظمة وارتفاع وهو مصدر مكن بضم الكاف كذا في المصباح، وذكر الجوهري في فصل الكاف أن المكانة بمعنى المنزلة، وهو من كان وفي فصل الميم بمعنى الاستقامة، وهو من مكن (لاتسامه) لاتخاذه سيمة أي علامة لنفسه (بسيمة العلماء) أي بعلامتهم (وترسمه) أي تصوره (برسومهم) أي بصورتهم (في الزي) بكسر الزاي أي اللباس والهيئة (والمنطق) أي الكلام وهو مصدر ميمي (مع تكالبه) أي تواثبه ومسارعته (على الدنيا ظاهراً وباطناً فهذا) أي الرجل الثالث (من الهالكين ومن الحمقى) بفتح الحاء وسكون الميم وبالقصر جمع أحمق وحمق بكسر الميم هما للمذكر وحمقاء بالمد للمؤنث كما في الصحاح، ومعنى الحمق بفتحتين أو بضم فسكون، وهو مصدر قلة العقل وفساده وماضيه حمق بكسر الميم أو ضمها، ومصدر المضموم حماقة أيضاً (المغرورين) أي المخدوعين للشيطان (إذ الرجاء منقطع عن توبته) أي لأن توبته لا ترجى لفوت قصده عليها والمنقطع بفتح الطاء اسم معنى، أما المنقطع بكسرها فهو اسم عين (لظنه أنه من المحسنين) أي العاملين بعلومهم
      (وهو) أي الرجل الثالث (غافل عن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون وهو) أي هذا الرجل (ممن) أي من بعض من (قال فيهم) أي في حقهم (رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا: مِنْ غَيْرِ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنَ الدَّجَالِ) وفي رواية "غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفني عَلَيْكم"، وفي رواية بحذف نون الوقاية، أي أخوف مخوفاتي عليكم وأخوفُ خبر غير، وهو أفعل تفضيل، وإنما دخل النون فيه لمشابهته لفعل التعجب (فقيل) أي لرسول الله (وما هو) أي غير الدجال (يا رسول الله فقال: علماء السوء) وهو كل منافق كثير علم اللسان جاهل القلب والعمل اتخذ العلم حرفة يتأكل بهأ، وأبهة يتعزز بها، يدعو الناس إلى الله ويفر هو منه كما قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَخَوْفَ مَا أخَافُ عَلى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيم اللِّسَانِ" رواه أحمد، ابن حنبل عن عمربن الخطاب وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أخَافُ عَلى أُمَّتِي الأَئِمَّةُ المُضِلُّون" رواه الإمام أحمد والطبراني عن أبي الدرداء. أي إن من أخوف شيء أخافه على أمتي ذلك
     (وهذا) أي بيان هذا الحديث (لأن الدجال غايته الإضلال) فلا يخفى على أحد من المؤمنين (ومثل هذا العالم وإن صرف الناس عن الدنيا) أي عن حبها (بلسانه ومقاله فهو داع لهم إليها) أي إلى حبها (بأعماله وأحواله ولسان الحال أنطق) أي أوضح دلالة إلى المراد وفي بعض النسخ أفصح أي أظهر (من لسان المقال وطباع الناس إلى المساعدة) بالسين المهملة ثم بالعين أي المعاونة (في الأعمال أميل) أي أكثر ميلاً (إليها من المتابعة في الأقوال) فقوله: ولسان الحال، في مقام التعليل لما قبله، وكذا قوله: وطباع الناس فهو أيضاً في مقام التعليل، وقوله: إلى المساعدة، متعلق بأميل. وقوله: إليها تأكيد له. وقوله: من المتابعة، مفضول عليه متعلق أيضاً بأميل (فما) أي فالذي (أفسده هذا المغرور) بالشيطان (بأعماله) الفاسدة (أكثر مما أصلحه بأقواله) المزخرفة (إذ لا يستجرىء) أي لا يشجع (الجاهل على الرغبة) أي التوجه (في الدنيا إلا باستجراء العلماء) عليها (فقد صار علمه) أي ذلك الرجل الثالث (سبباً لجرأة) بضم الجيم وسكون الراء (عباد الله على) إتيان (معاصيه) من غير توقف فقوله صار الخ ملتصق بقوله: فاتخذ علمه ذريعة، إلى آخره، فلو أتى بهذه الجملة عقبه، ثم عللها بقوله: إذ لا يستجرىء الخ، ثم ذكر معطوفها لكان ذلك أظهر والله أعلم. (و) صارت (نفسه الجاهلة) الأمارة بالسوء (مدلة مع ذلك) أي الرجل الثالث كتدلل المرأة مع زوجها، والمدلة بضم الميم وكسر الدال من أدل بهمزة الصيررورة كما في الصحاح، ومعنى ذلك أن النفس صارت دلالاً، أي ملاعبة مع صاحبها، ثم بين المصنف تدللها معه بقوله (تمنيه) أي فتارة تأمره النفس بأن يتمنى ما بعد حصولاً كالجنة والثواب العظيم (وترجيه) أي وتارة تأمره نفسه بأن يترجى ما سهل حصوله كالمال، وكثرة الأتباع (وتدعوه) أي وتارة تطلبه نفسه (إلى أن يمن) أي يعدد (على الله بعلمه) بأن يقول: يا رب علمت كذا وكذا (وتخيل إليه نفسه) أي وتارة توقع النفس في وهمه وخلده (إنه خير من كثير من عباد الله) أي بسب كثرة علمه (فكن أيها الطالب) للعمل (من الفريق) أي الطائفة (الأول) وهو الناجي (واحذر) أي احترز (ن تكون من الفريق الثاني) وهو المشرف على الهلاك (فكم) الفاء للتعليل، أي لأن كثيراً (من مسوف) أي مماطل للتوبة (عاجله) أي أسرع إليه (الأجل قبل التوبة فخسر) بالخاء المعجمة أي ضل وهلك، ويجوز بالحاء المهملة بمعنى حزن وندم في الآخرة، فلم ينفعه الندم.
     (وإياك) أي احذر تلافيك (ثم إياك) تأكيد للأول (أن تكون من الفريق الثالث) وهو الهالك الذي تدللت معه نفسه (فتهلك) بالنصب، لأنه جواب الأمر، وهو في الحقيقة جواب الشرط المقدر، والتقدير وإن لم تحذر فتهلك (هلاكاً لا يرجى معه فلاحك) أي نجاتك (ولا ينتظر صلاحك) أي خيرك وصوابك (فإن قلت) لي (فما بداية الهداية) التي ذكرها سابقاً (لأجرب بها نفسي) الأمارة وغيرها فهل تقبلها أو تماطلها؟ (فـ) أقول لك (اعلم) أيها السائل المريد للخير (أن بدايتها) أي الهداية (ظاهرة التقوى ونهايتها باطنة التقوى فلا عاقبة) أي لا غنيمة (إلا بالتقوى ولا هدى) أي رشاد (إلا للمتقين) أي المتصفين بالتقوى (والتقوى عبارة عن امتثال) أي اقتداء (أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه) أي مناهيه كما في نسخة وسمى ذلك تقوى لأنه يقي أن يحفظ صاحبه من المهالك الدنيوية والأخروية (فهما) أي الامتثال والاجتناب (قسمان وها) للتنبيه (أنا أشير عليك بجمل) بفتح الميم جمع جملة بسكونها (مختصرة) أي موجزة في العبارة (من ظاهر علم التقوى في) هذين (القسمين جميعاً) وهو آداب في الطاعات وآداب في ترك المعاصي (وألحق) أي أتبع (قسماً ثالثاً) وهو آداب الصحبة (ليصير هذا الكتاب جامعاً) أي لجميع المعاملة مع الله تعالى ومع الخلق (مغنياً) أي عن الكتب التي لم تذكر أحد هذه الأقسام الثلاثة، أو عن الكتب المبسوطات (والله المستعان) على أداء الخيرات وترك المنكرات.
     (القسم الأول) من قسمي معنى التقوى (في الطاعات. اعلم أن أوامر الله تعالى) نوعان: (فرائض ونوافل فالفرض رأس المال) أي أصله (وهو أصل التجارة وبه تحصل النجاة) من المهالك (والنفل هو الربح وبه الفوز) أي الظفر (بالدرجات) وهي الطبقات من المراتب (قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك) أي تزايد إحسانه (وتعالى) أي تنزه عما لا يليق به أي في الحديث القدسي والكلام الأنسي (ما تَقَرَّبَ إِليَّ: المُتَقَرِّبونَ بِمثل أَدَاءِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ) وفي رواية للبخاري "ومَا تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعاتِ أحَبّ إِليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ" أي من أداء ذلك، ودخل تحت هذا اللفظ جميع فرائض العين والكفاية، وشمل الفرائض الظاهرة فعلاً كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، وتركاً كالزنى والقتل وغيرهما من المحرمات، والباطنة كالعلم بالله والحب له، والتوكل عليه والخوف منه (وَلاَ يَزَالُ العَبْدُ يَتَقرَّبُ) أي يتحبب (إِليَّ بِالنَّوافِلِ) أي التطوع من جميع صنوف العبادات (حَتَّى أُحِبَّهُ) بضم أول الفعل، لأن الذي يؤدي الفرض قد يفعله خوفاً من العقوبة، ومؤدي النوافل لا يفعلها إلا إيثاراً للخدمة، فلذلك جوزي المحبة التي هي غاية مطلوب من يتقرب بخدمته، والمراد بالنوافل هي النوافل الواقعة ممن أدى الفرائض، لا ممن ترك شيئاً منها. كما قال بعض الأكابر، من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور. (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ) أي أظهرت حبي له بعد تقربه إليَّ بما ذكر، فإن حبه تعالى قديم غير حادث (كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسانَهُ الذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ التي يَبْطِشُ بها وَرِجْلَهُ التي يَمْشِي بها) أي كنت حافظ أعضائه، وحامي أحرائه أن يتحرك بغير رضائي، وأن يسكن لغير طاعتي، وهنا معنى أدون من ذلك، وهو أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يتلذذ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا يمد يده إلا بما فيه رضائي، ولا يمشي برجله إلا في طاعتي.
     والحاصل أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنوافل قربه الله تعالى إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله تعالى على الحضور والشوق إليه تعالى حتى يصير مشاهداً له تعالى بعين البصيرة، فكأنه يراه تعالى فحينئذٍ يمتلىء قلبه بمعرفته ومحبته، ثم لا تزال محبته تتزايد حتى لا يبقى في قلبه غيرها، فلا تستطيع جوارحه أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلبه، وهذا هو الذي يقال فيه لم يبق في قلبه إلا الله، أي معرفته ومحبته وذكره (ولن تصل أيها الطالب) للدرجة العالية (إلى) مقام الإحسان الذي هو حقيقة (القيام بأوامر الله تعالى إلا بمراقبة قلبك وجوارحك) وهو دوام ملاحظتك أي اشتغال قلبك واستغراق أعضائك مع الله تعالى (في) دوام (لحظاتك) بعينك (وأنفاسك من حين تصبح إلى حين تمسى) فإذا أردت المراقبة (فاعلم أن الله تعالى مطلع) أي عالم (على ضميرك) أي قلبك (ومشرف) أي ناظر (على ظاهرك وباطنك ومحيط) أي بعلم تام (بجميع لحظاتك وخطراتك) في بالك (وخطواتك) برجليك (وسائر سكناتك) في المعاصي والطاعات (وحركاتك) في ذلك (وإنك في مخالطتك) مع الناس (وخلواتك) بنفسك (متردد) وحاضر (بين يديه) تعالى (فلا يسكن في الملك والملكوت) أي في الملك العظيم والتاء للبمالغة والمراد بذلك في الأرض والسماء (ساكن ولا يتحرك) في ذلك (متحرك إلا وجبار السموات والأرض مطلع عليه) أي على كل من الساكن والمتحرك (يعلم) سبحانه وتعالى (خائنة الأعين) أي خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر، وهو الإشارة بالعين كذا قاله الشربيني، ويصح أن يكون ذلك من إضافة الصفة للموصوف، أي العين الخائنة بمسارقتها النظر إلى ما لا يحل (وما تخفي الصدور) أي القلوب من العزم على فعل المعصية والطاعات (ويعلم السر وأخفى) قال ابن عباس: السر ما تسر في نفسك، وأخفى السر هو ما يلقيه الله تعالى في قلبك من بعد، ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك، لأنك لا تعلم ما تسره اليوم، ولم تعلم ما تسره غداً، والله يعلم ما أسررت اليوم، وما تسر غداً. قال بعض المشايخ: فإذا داوم العابد على هذا الذكر، وهو: الله شاهدي، الله حاضري والله مطلع علي، أعانه الله تعالى على المراقبة المذكورة انتهى. وقد أرشد المصنف بذلك العابد إلى أن يأتي بعبادته على الوجه الأكمل من إخلاص، وفراغ قلب من شواغل الدنيا، ومن تمكن من تلك المراقبة في عبادته عالماً بأنه يناجي ملك الملوك، ذهب عنه الوسواس الصادر عن الجهل بمسالك الشريعة، وتدبر معاني ما يقول، فإذا كانت عبادته كذلك انفتح له فيها من المعارف ما يقصر عن وصف كل عارف (فتأدب أيها المسكين ظاهراً وباطناً) أي بالجوارح والقلب بمحاسن الأخلاق، وبمخالفة مرادات النفس المنهي عنها من حب الدنيا والرياسة في مخالطة الناس، وفي الانفراد بنفسك (بين يدي الله تعالى تأدب العبد) أي خادم الملك أو واحد من رعيته (الذليل) أي بين الذل (المذنب) أي متحمل الذنب (في حضرة الملك) أي متولي السلطنة (الجبار) أي الذي يقتل عند الغضب (القهار) أي الذي قهر رعيته فلا يقدر أحد على دفع مراده قال بعضهم: إذا أردت أن تفعل شيئاً فاعلم أولاً أن الله تعالى حاضر وناظر، فإن كان ذلك الشيء خيراً فافعله بالخضوع، أي التذلل في الأعضاء والخشوع أي خفض الصوت رعاية وتعظيماً لله تعالى، وإلا فاتركه خوفاً من الله وعذابه (واجتهد) أي فابذل طاقتك في (أن لا يراك مولاك حيث) أي في موضع (نهاك ولا يفقدك حيث) أي في موضع (أمرك) أي ابذل وسعك في تحصيل اجتناب المعاصي وتحصيل أداء الطاعات لتصل إلى نهاية المطلوب (ولن تقدر على ذلك) الاجتهاد (إلا بأن توزع) أي تقسم (أوقاتك وترتب أورادك) أي وظائفك (من صباحك إلى مسائك فاصغ) أي مل (إلى ما يلقى) أي ما يبلغ (إليك من أوامر الله تعالى) المطلوبة (عليك من حين تستيقظ من منامك إلى وقت رجوعك إلى مضجعك) حتى تنام.

     (فصل): في آداب الاستيقاظ من النوم، وآداب اللبس. هذه الترجمة ساقطة في بعض النسخ (فإذا استيقظت) أي أردت الاستيقاظ (من النوم) لتحصيل الفضيلة العظمى (فاجتهد) في طلب (أن تستيقظ قبل طلوع الفجر) لتصلي أول الوقت، لأن التغليس أولى من التنوير، لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الوقت، وفي ذلك الوقت ظلمة كانت ملائكة الليل حاضرة، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة حتى ظهر الضوء كانت ملائكة النهار حاضرة أيضاً، وهم يشهدون صلاته، وأيضاً الإنسان إذا شرع في صلاة الصبح من أول هذا الوقت، وامتدت القراءة ففي أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء، فالظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسبة للحياة والوجود، فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة، ومن العدم إلى الوجود ومن السكون إلى الحركة وهذه الحالة العجيبة تشهد العقول بأنه لا يقدر على هذا التقليل إلا الخالق بالحكمة، فحينئذٍ يستنير العقل بنور هذه المعرفة، ويتخلص من مرض قلبه، فإن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب، وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر، والأنبياء كالأطباء الحاذقين حملوا أممهم على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم، لأنه مما ينفع في إزالة هذا المرض هكذا قال الشربيني (وليكن أول ما يجري على قلبك ولسانك ذكر الله تعالى) لخبر البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذا هُوَ نامَ ثلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلى كُلِّ عُقْدَةٍ مَكانَكَ عَلَيْكَ لَيْلٌ طوِيلٌ فَارْقُدْ، فإِن اسْتَيْقَظَ ذَاكِراً الله تعالى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فأصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسِ، وإِلاَّ أَصْبَحَ خَبيثَ النَّفْسِ كَسْلاَن"، قوله: أول خبر يكن مقدم وذكر الله اسمها مؤخر (فقل عند ذلك) أي الاستيقاظ من النوم (الحمد لله الذي أحياناً) أي أيقظنا (بعد ما أماتنا) أي أنامنا (وإليه النشور) أي من القبور للجزاء. روى هذا التحميد البخاري عن حذيفة وأبي ذر (أصبحنا) أي دخلنا في الصباح مملوكين لله (وأصبح) أي صار (الملك لله والعظمة) أي الكبرياء (والسلطان لله والعزة والقدرة لله رب العالمين أصبحنا على فطرة الإسلام) بكسر الفاء أي دين الحق (وعلى كلمة الإخلاص). هي كلمة الشهادة (وعلى دين نبينا محمدصلى الله عليه وسلم وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً) أي مائلاً إلى الدين المستقيم (مسلماً وما كان من المشركين) روى هذا الذكر الأخير الإمام أحمد (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور اللهم إنا نسألك أن تبعثنا) أي توجهنا (في هذا اليوم إلى كل خير ونعوذ بك أن نجترح) أي نكتسب (فيه) أي هذا اليوم (سوءاً) أي ذنباً (أو نجره إلى مسلم أو يجره أحد إلينا نسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه ونعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما فيه) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَعَافَانِي في جَسَدِي، وأذِنَ لي بِذِكِرهِ" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَنْتَبِهُ مِنْ نَوْمِهِ فَيَقُولُ الحمدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّوْمَ وَاليَقَظَةَ، الحمدُ للَّهِ الَّذِي بَعَثَنِي سالماً سَوِيّاً أشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحْييء المَوْتَى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلاَّ قالَ اللَّهُ تعالى صَدَقَ عَبْدِي" وعن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إل?هَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَستَغْفِرُكَ لِذَنْبي وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْماً وَلاَ تُزِغْ قَلْبي بَعْدَ إِذ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ"؛ كذا ذكره النووي في أذكاره (فإذا لبست ثيابك فانوِ به) أي اللبس (امتثال أمر الله تعالى) الوارد (في ستر عورتك واحذر أن يكون قصدك من لبس لباسك مراآة الخلق فتخسر) أي فتهلك، أما لو قصدت بلبس الثياب والنعل ونحو ذلك أن يكون لك تعظيم عند الناس، أو محبة عند المشايخ والأئمة، لتتمكن من تأييد مذهب أهل الحق ونشر العلم وحض الناس على العبادة، لا لشرف نفسك من حيث هي، ولا لدنيا تنالها لصار ذلك الأمر خيراً، وصار في حكم أعمال الآخرة، لأن هذه نيات محمودة لا يدخل شيء منها في باب الرياء، إذ المقصود من ذلك أمر الآخرة بالحقيقة كما قاله الغزالي. وقال بعضهم: وينبغي أن يكون العلماء وطالب العلم في زماننا هذا أحسن ثياباً وأعظم عمامة، وأوسع أكماماً من الجهلاء، أي ليكون العلم قوياً عظمياً. كما قال أبو حنيفة لأصحابه: عظموا عمائمكم ووسعوا أكمامكم لئلا يستخف الناس بالعلم وأهله. وعن سعيدبن مالكبن سنان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لبس ثوباً قميصاً أو رداء أو عمامة يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهِ وَخَيْرِ ما هُوَ لَهُ، وأعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ ما هُوَ لَهُ" وعن معاذبن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً فَقَالَ الحمدُ للَّهِ الَّذِي كَسَانِي ه?ذا، وَرَزَقَنيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

باب آداب دخول الخلاء
     أي وما معه (فإذا قصدت بيت الماء) وهو مكان قضاء الحاجة من بول وغائط (لقضاء الحاجة) أو غيره (فقدم في الدخول رجلك اليسرى) أو بدلها لو قطعت (وفي الخروج رجلك اليمنى) ومثل بيت الماء كل ما ليس شريفاً ولو خرج من مستقذر إلى مستقذر قدم يساره، كذا أفاده الونائي (ولا تستصحب) أي لا تلازم (شيئاً) معظماً وإن كتب بقلم هندي كأن كان (عليه اسم الله تعالى ورسوله) وحمله مكروه فيه والحروف ليس معظمة لذاتها (ولا تدخل) فيه (حاسر الرأس) أي كاشفه بلا ستر ويكفى في الأدب ستره بالكم للأمن من أذى الجن كما أفاده الرملي (ولا حافي القدمين) أي بلا نعل وخف للتحفظ من النجاسة (وقل عند الدخول) أي لما تصل لبابه، وإن بعد محل جلوسه عنه، فإن تركت حتى دخلت فقل بقلبك (باسم الله) أي أتحصن من الشيطان ولا تزد الرحمن الرحيم (أعوذ بالله) أي اعتصم بالله (من الرجس النجس) بكسر الراء في الكلمة الأولى وكسر النون في الثانية وسكون الجيم فيهما (الخبيث المخبث) بضم فسكون فكسر أي الذي يوقع الناس في الخبت، أي يفرح بوقوعهم فيه (الشيطان الرجيم) أي البعيد من الرحمة، وفي رواية ابن عدي: اللهم إني أعوذ بك من الرجس إلى آخره، بلا لفظ باسم الله، وهو موجود في رواية ابن أبي شيبة لكن مع التعوذ الآخر (وعند الخروج) أي الانصراف من بيت الماء بأن يكون خارجاً عنه (غفرانك الحمد لله الذي أذهب غني ما يؤذيني) أي بإخراج الفضلة (وأبقى في ما ينفعني) هو قوة المأكول والمشروب، ويسن أن يقول عند ذلك أيضاً غفرانك مرتين أو ثلاثاً كما أفاده الونائي (وينبغي أن تعد النبل) أي أن تحضر أحجار الاستنجاء من مدر وغيره، والنبل بضم النون وفتح الباء جمع نبلة مثل غرف وغرفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "اتّقُوا المَلاعِنَ وَأَعِدُّوا النَّبْلَ" (قبل قضاء الحاجة) والجلوس له (وأن لا تستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة) إن لم يكن معداً لذلك لئلا يعود عليه الرشاش فينجسه بخلاف المستنجي بالحجر لفقد تلك العلة، وبخلاف المعد لذلك فإن الاستنجاء فيه يصيره نظيفاً إلا إن كان فيه هواء معكوس، فيكره ذلك فيه لخوف عود الرشاش (وأن تستبريء من البول) أي والغائط أيضاً بعد انقطاعهما (بالتنحنح والنتر) بالتاء المثناة (ثلاثاً) لقوله صلى الله عليه وسلم: "فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلاثَ نَتَراتٍ" يعني بعد البول. وكيفية النتر أن يمسح بيسراه من دبره إلى رأس ذكره، ويعيده بلطف ليخرج ما بقى إن كان، ويكون ذلك بالإبهام والمسبحة، لأنه يتمكن بهما من الإحاطة بالذكر، وتضع المرأة أصابع يدها اليسرى على عانتها كذا نقله البجيرمي عن شرح الروض لشيخ الإسلام، لكن المراد بالنتر هنا مد الذكر بلطف بدليل عطف ما بعده وهو قوله (وبإمرار اليد اليسرى) أي بمسحها أي بمسح إبهامها ومسبحتها (على أسفل القضيب) وهو قصبة الذكر من مجامع عروقها، ويمسح البطن ونحو ذلك، ويختلف الاستبراء باختلاف الناس، وهو سنة إن علم أن بوله ينقطع بمجرد الخروج، وواجب إذا غلب على ظنه عدم انقطاعه إلا بنحو التنحنح (وإن كنت في الصحراء) أو في البنيان (فابعد عن عيون الناظرين) بحيث لا يرى شخصك وهذا الإبعاد أفضل من الإبعاد عن الناس إلى حيث لا يسمع للخارج منه صوت، ولا يشم له ريح كما نقله الونائي عن الرملي (واستتر بشيء) يستر العورة عمن يمر عليك، وإن لم يكن أحد، ولا يكفى الزجاج (إن وجدته) سواء وجدت هناك ساتر القبلة أو لا إذا جلس في وسط مكان واسع، فإن كان في بناء مسقف أو يمكن عادة تسقيفه كفى الستر عن الأعين بذلك البناء، وإن تباعد عنه بأكثر من ثلاثة أذرع إن لم يكن داخله من ينظر إليه، وإلا وجب الستر للعورة حنيئذٍ، لأنه يحرم عليه كشف العورة بحضرة الناس كما قاله الونائي. (ولا تكشف عورتك قبل الانتهاء إلى موضع الجلوس) فإذا انتهيت إليه فاكشف ثوبك شيئاً فشيئاً إلا أن تخاف تنجس ثوبك، فترفعه بقدر حاجتك، ثم اسدله كذلك قبل انتصابك (ولا تستقبل الشمس ولا القمر) بعين بول وغائط عند طلوعهما أو غروبهما بدون ساتر كسحاب، ولا بأس عليك باستدبارهما (ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها) فاستقبال القبلة واستدبارها بعين الفرج الخارج منه البول أو الغائط، ولو مع عدم الاستقبال بالصدر لعين القبلة بغير ساتر حال قضاء الحاجة حرام في غير المعد لها وبساتر خلاف الأولى، سواء كان بصحراء أو ببناء أما في المعد، فخلاف الأفضل إن سهل العدول عن القبلة، والمراد باستدبار القبلة كشف دبره إلى جهتها حال خروج الخارج منه، فمن قضى الحاجتين معاً لم يجب عليه الاستتار إلا من جهة القبلة فقط إن استقبلها أو استدبرها، ويشترط في عرض الساتر أن يعم جميع ما توجه به إلى القبلة ولو زجاجاً، وهو من السرة إلى الأرض سواء في ذلك القائم والجالس، فلو قضى حاجته قائماً، فلا بد أن يستر من سرته إلى موضع قدميه صيانة للقبلة، وإن كانت العورة تنتهي للركبة، ويشترط أن يكون بينة وبين الساتر ثلاثة أذرع فأقل بذراع الآدمي المعتدل، ولا يحرم استقبال المصحف أو استدباره ببول أو غائط، وإن كان أعظم من القبلة، لأنه قد يثبت للمفضول مالا يثبت للفاضل، لكن إذا كان ذلك على وجه يعد ازدراء حرم، بل قد يكون كفراً، وكذا يقال في استقبال القبر المكرم أو استدباره، كذا أفاده الوانائي (ولا تجلس) لقضاء الحاجة (في متحدث الناس) وهو محل اجتماع الناس في الشمس شتاء والظل صيفاً، والمراد هنا كل محل غير مملوك لأحد يقصد لغرض كمعيشة أو مقيل فيكره ذلك إن اجتمعوا لأمرٍ مباح وإلا فلا، بل قد يجب إن لزم على ذلك دفع معصية اهـ. (ولا تبل) أي ولا تتغوط أيضاً (في الماء الراكد) قل أو كثر ما لم يستبحر، أما الجاري فلا يكره ذلك في كثيره لقوته ويحرم ذلك في مسبل وموقوف مطلقاً وماء هو واقف فيه إن قل، والتفصيل إنما هو في قضاء الحاجة في الماء نهاراً أما في الليل فيكره مطلقاً جارياً كان أو راكداً مستبحراً أولا، لأن الماء بالليل مأوى الجن (وتحت الشجرة المثمرة) ولو كان الثمر مباحاً صيانة للثمرة الواقعة عن التلويث فتعافها الأنفس، ولو في غير وقت الثمرة، سواء كان الثمر مأكولاً أو مشموماً، فيكره ذلك ما لم يعلم مجيء ما يزيل ذلك النجس عن المحل قبل وجود الثمرة من مطر أو غيره (ولا في الحجر) وهو الثقب أي الخرق المستدير النازل في الأرض وألحقوا به السرب بفتح السين والراء وهو الشق المستطيل لما قيل إن ذلك مسكن الجن، وأنهم قتلوا سعداًبن عبادة رضي الله عنه لما بال فيه، ويحرم قضاء الحاجة فيه إذا غلب على ظنه أن فيه حيواناً لم يندب قتله يتأذى بذلك النجس، أو يموت به كما قال الونائي (واحذر الأرض الصُّلبة) بضم الصاد وفتحها وسكون اللام، أي في البول والغائط المائع لئلا يصيبك رشاش الخارج (ومهب الريح) أي محل هبوبها وقت هبوبها أي مرورها على ما قاله الرملي فلا تستقبله احترازاً من الرشاش (إن كان الخارج بولاً أو غائطاً رقيقاً) ومن عود ريحه إن كان جامداً. وقال ابن حجر والشربيني: المعتبر في الكراهة هبوب الريح الغالب في ذلك الزمن، وإن لم تكن هابة بالفعل إذ قد يهب بعد الشروع في البول والغائط فتأذى بهما (واتكىء) أي اعتمد (في جلوسك على الرجل اليسرى) ناصباً يمناك بأن تضع اليمنى على الأرض وترفع باقيها، لأن ذلك أسهل لخروج الخارج مع راحة الأعضاء الرئيسة كالكبد والقلب، فإنها في جهة اليسار، فإن الإنسان كالجرة الملآنة فإذا أميلت سهل خروج الخارج منها، وإذا كبت معتدلة كان في خروج الخارج عسر ولأن المناسب لليمنى أن تصان عن استعمالها في هذا المحل القذر، وأما القائم فيعتمد على الرجلين معاً في البول والغائط كما اعتمده الشيخ عطية أخذاً من كلام المنهاج (ولا تَبُلْ) ولا تتغوَّط (قائماً) فذلك مكروه (إلا عن) أي لأجل (ضرورة) فلا كراهة ولا خلاف الأولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً، وفي الحديث ثلاثة أوجه: أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لمرض منعه من القعود، والثاني أنه استشفى بذلك من وجع الصلب جرياً على عادة العرب من أنهم يشتشفون بالبول قياماً، والثالث أنه لم يتمكن من القعود في ذلك المكان لكثرة النجاسة. (وأجمع في الاستنجاء) من البول والغائط (بين استعمال الحجر والماء) بتقديم الحجر وهو أفضل من الاقتصار على أحدهما ليجتنب مس النجاسة لإزالة عينها بالحجر، ومن ذلك حصل أصل السنة بالحجر النجس في حال الجمع، روي أنه لما نزل قوله تعالى {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (التوبة:108) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالى قَدْ أَثْنَى عَلَيْكم في الطَّهُورِ فَمَا هُوَ"؟ قالوا: إِنا نَسْتَنْجِي بالماءِ. وكان قبل ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتى أَحَدُكُم الخلاء فَلْيَسْتَنْجِ بثلاثةِ أحْجَارٍ" وهكذا كان الاستنجاء في الابتداء، وقيل: إنهم لما سئلوا عن ذلك قالوا: إنا كنا نتبع الماء الحجر". كذا في عوارف المعارف. (فإذا أردت الاقتصار) في الاستنجاء (على أحدهما فالماء أفضل) لأن النجاسة إنما تزول بالماء (وإن اقتصرت على الحجر فعليك أن تسعتمل ثلاثة أحجار طاهرة منشفة) أي مشتربة (للعين) فلا يجزىء متنجس ولا ما فيه رطوبة وما فيه نعومة كالتراب والفحم الرخو والقصب الذي لم يشق إذا كان غير جدوره (تمسح) أي تعم (بها محل النجو) أي الخرء، فإن تعميم كل مسحة من الثلاثة لكل الجزء من المحل واجب بأن تضع الحجر على مقدم المقعدة قبل موضع النجاسة، وتمرها بالمسح والإدارة إلى مؤخره، وتأخذ الثانية وتضعها على المؤخرة كذلك وتمرها إلى المقدمة، وتأخذ الثالثة فتديرها حول المسربة إدارة وتمسحها بها من المقدمة إلى المؤخرة (بحيث لا تنتقل النجاسة عن موضعها) الذي أصابته عند الخروج واستقرت فيه حتى لو قمت وانضمت أليتاك، وانتقلت النجاسة تعين عليك الماء، وقوله: بحيث، الباء بمعنى في وهو متعلق بقوله أن تستعمل، أما النقل المضطر إليه الحاصل من الإدارة فلا يضر  (وكذلك تمسح القضيب في ثلاثة مواضع من حجر) بأن تأخذ حجراً كبيراً بيمينك والذكر بيسارك، وتمسح الحجر بذكرك، وتحرك اليسار فتمسح ثلاث مرات في ثلاث مواضع من حجر واحد كبير، أو في ثلاثة أحجار أو في ثلاثة مواضع من جدار إلى أن لا ترى الرطوبة في محل المسح هكذا في الإحياء (فإن) حصل الإنقاء بمرتين وجب عليك الإتيان بالثالثة، وإن (لم يحصل الإنقاء بثلاثة) من المسحات بأن بقي أثر يزيله ما فوق صغار الخزف فعليك برابع، وهكذا ثم إن أنقيت المحل بوتر فواضح وإلا (فتمم خمسة) وإن أنقيت برابعة (أو سبعة) إن أنقيت بستة وهكذا (إلى أن ينقى) أي الموضع ويحصل المسح (بالإيتار) أي الانفراد (فالإيتار) بواحدة بعد الإنقاء الذي لم يحصل بوتر (مستحب والإنقاء) إلى أن لا يزيل الأثر إلا الماء أو صغار الخزف (واجب) واعلم أن المصنف ذكر لإجزاء الاقتصار على الحجر ستة شروط: شرطين في ذات الحجر وهما كونه طاهراً قالعاً لعين النجاسة، وثلاثة شروط لإجزاء استعمال الحجر، وهي ثلاث مسحات، وتعميم المحل بكل مسحة وإنقاء المحل، وشرطاً واحداً للمحل الذي يستنجى فيه، وهو عدم انتقال الخارج. (ولا تستنج إلا باليد اليسرى) بأن تأخذ الحر بيسارك على الكيفية المذكورة، وبأن تفيض الماء باليمنى على محل الخرء، وتدلكه باليسرى حتى لا يبقى أثر يدركه الكف بحس اللمس، ويكفي في ذلك غلبة ظن زوال النجاسة، ولا يسن حينئذٍ شم اليد، وينبغي الاسترخاء لئلا يبقى أثرها في تضاعيف شرج المقعدة، فتنبه لذلك، كذلك قاله ابن حجر (وقل عند الفراغ من الاستنجاء) وبعد الخروج من محله (اللهم طهر قلبي من النفاق) أي نفاق الاعتقاد أي الاعتقاد الفاسد كاعتقاد المعتزلة، فيكون المعنى أدم تطهيره منه، أو نفاق العمل فيكون المعنى اقطع قلبي عن أصول النفاق من القوة الشهوية والغضبية (وحصن فرجي من الفواحش) أي اجعله عفيفاً عن الأمور التي تجاوز الحد، واعلم أن التكلم ولو بغير ذكر بمجرد الدخول في محل قضاء الحاجة مكروه، ولو بغير قضائها كأن دخل لوصع إبريق مثلاً أو لكنس إلا لمصلحة، ولا يكره الذكر بالقلب، ويكفي في هذه الحالة الحياء من الله والمراقبة وذكر نعمة الله تعالى في إخراج هذا العود المؤذي الذي لو لم يخرج لقتل صاحبه، وهذا من أعظم الذكر، ولو لم يقل باللسان كما قاله عمر البصري (وادلك يدك بعد تمام الاستنجاء بالأرض أو بحائط) أي جدار إزالة للرائحة إن بقيت (ثم اغسلها) أي اليد. ومن الآداب أيضاً عدم تطويل القعود بلا ضرورة، وعدم العبث باليد وبالرؤية إلى اليمين والشمال، وعدم النظر للسماء أو الفرج أو للخارج بلا حاجة.

باب آداب الوضوء
     المراد بالآداب هنا المطلوبة، فتشمل المندوبة والواجبة كما أفاده شيخنا عبد الحميد (فإذا فرغت من الاستنجاء فلا تترك السواك) وأنو بالسواك السنة وتطهير الفم لقراءة القرآن، وذكر الله في الصلاة كما تنوي بالجماع حصول النسل (فإنَّه) أي السواك (مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ) بفتح الميم وكسرها، أي آلة تنظفه من الرائحة الكريهة (ومرضاة للرب ومسخطة للشيطان وصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك) لخبر رواه الحميدي ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بلا سواك، وفي رواية ركعة بسواك تعدل سبعين ركعة، ولا يدل هذا الحديث على زيادة فضل السواك على فضل الجماعة التي هي بسبع وعشرين درجة، لأنه لم يتحد الجزاء فيهما لأن درجة واحدة من الجماعة قد تعدل كثيراً من السبعين ركعة بسواك، وقال الونائي. وقد يجب الاستياك لامرأة إذا أمرها زوجها، وللمملوك إذا أمره سيده، ولمن أكل ثوماً أو بصلاً يوم الجمعة، وقد توقفت إزالة الرائحة على السواك لأجل صلاة الجمعة اهـ. (ثم) عند الفراغ من السواك (اجلس للوضوء) وهذا موافق لما في كلام الرملي والماوردي من أن محله قبل غسل الكفين خلافاً للإمام وابن الصلاح وابن النقيب وابن حجر والشربيني من أن محله بين غسل الكفين والمضمضة (مستقبل القبلة على موضع مرتفع كي لا يصيبك الرشاش) بفتح الراء أي المتناثر من الماء (وقل بسم الله الرحمن الرحيم) فإن قلت بسم الله كفى فإن تركت البسملة في أول الوضوء، فائت بها في أثنائه فإن فرغت فلا تأت بها لفوت محلها، ثم قل: الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً كذا في الأذكار. (رب أعوذ بك من همزات الشياطين) أي وساوسهم (وأعوذ بك رب أن يحضرون) أي أن تصيبني الشياطين بسوء كذا في الصحاح (ثم اغسل يديك) أي كفيك إلى كوعيك (ثلاثاً قبل أن تدخلهما الإناء وقل اللهم إني أسألك اليمن) بضم الياء أي القوة على الطاعة (والبركة) أي زيادة الخير (وأعوذ بك من الشؤم) أي الشر (والهلكة) بفتح أحرفه أو قل مثل ما نقل عن الرملي وهو: اللهم احفظ يدي من معاصيك كلها (ثم أنوِ رفع الحدث أو استباحة الصلاة) واستدم النية إلى غسل الوجه، ولا يقدح في نية رفع الحدث عن أول غسل الكفين أن السنن المقدمة لا ترفع الحدث، لأن السنن في كل عبادة تندرج في نيتها على سبيل التبعية، فمعنى نية رفع الحدث قصد رفعه بمجموع أعمال الوضوء، وهو رافع بلا شك كذا في حاشية الإقناع.
     (ولا ينبغي) أي لا يجوز (أن تعزب) بضم الزاي وكسرها (نيتك) أي أن تغيب عنك ذكراً (قبل غسل) جزء من (الوجه فلا يصح وضوؤك ثم خذ غرفة لفيك وتمضمض بها ثلاثاً وبالغ في رد الماء إلى الغلصمة) أي رأس الحلقوم وهو الموضع الناتىء في الحلق، وأدر الماء في فيك ثم مجه (إلا أن تكون صائماً) أي أو ممسكاً لترك النية (فترفق) بضم الفاء لخوف الإفطار (وقل اللهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك) أو مثل ما ذكر في الأذكار وهو اللهم أسقني من حوض نبيكصلى الله عليه وسلم كأساً لا أظمأ بعده أبداً، أو قل اللهم أعني على ذكرك وشكرك (ثم خذ غرفة لأنفك واستنشق بها ثلاثاً) وبالغ في تصعيد الماء بالنفس إلى الخيشوم ما لم تكن صائماً (واستنثر ما في الأنف من رطوبة) وأذى بخنصر يدك اليسرى (وقل في الاستنشاق اللهم أوجد لي) وفي بعض النسخ أرحني (رائحة الجنة وأنت عني راض) وفي الأذكار بدل ذلك: اللهم لا تحرمني رائحة نعيمك وجناتك (وفي الاستنثار اللهم إني أعوذ بك من روائح النار وسوء الدار) لأن الاستنشاق إيصال والاستنثار إزالة (ثم خذ غرفة لوجهك فاغسل بها من مبتدأ تسطيح الجبهة) أي من أعلى بسطها (إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول ومن الأذن إلى الأذن في العرض، وأوصل الماء إلى موضع التحذيف) فهو من الرأس لاتصال شعره بشعر الرأس وبعضه من الوجه (وهو ما يعتاد النساء) والأكابر وهو ماله وجاهة (تنحية الشعر) أي إزالته (عنه) ليتسع الوجه (وهو ما بين رأس الأذن) أي أصلها الذي يعلوه بياض مستور بالمرتفع منها، فهو فوق الوتد قريب ليس بينه وبينه فاصل إلا الجزء المنخفض، فالجزء الذي فوق هذا المنخفض هو المسمى برأس الأذن (إلى زاوية الجبين) أي إلى ركن فوق الصدغ (أعني) بموضع التحذيف (ما) أي القدر الذي (يقع منه في جبهة الوجه) أي جانبها بأن يوضع طرف خيط على رأس الأذن، والطرف الثاني على أعلى الجبهة، ويجعل هذا الخيط مستقيماً، فما نزل عنه إلى جانب الوجه الملاصق للنزعة، فهو موضع التحذيف (وأوصل الماء إلى منابت الشعور الأربعة الحاجبين والشاربين) الشاملين للسبالين (والأهداب والعذارين وهما ما يوازيان) أي يحاذيان (الأذنين من مبتدأ اللحية) وهو ما بين الصدغ والعارض مما ينبت أولاً للأمرد غالباً (ويجب إيصال الماء إلى منابت اللحية الخفيفة) بأن ترى البشرة من تحتها في مجلس التخاطب (دون الكثيفة).
     والحاصل أن لحية الذكر وعارضيه وما خرج من حد الوجه من الشعور، ولو من امرأة وخنثى إن كثف وجب غسل ظاهره فقط، وما عدا ذلك يجب غسله مطلقاً، أي ظاهراً وباطناً ولو كثيفاً هذا هو المعتمد في شعور الوجه، فاعتمده كذا نقله البجيرمي عن الشبراملسي (وقل عند غسل الوجه اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك ولا تسود وجهي بظلماتك يوم تسود وجوه أعدائك) والأخصر من ذلك: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه (ولا تترك تخليل اللحية الكثيفة) قبل غسل الوجه كما قاله عطية تبعاً للعناني إلا إذا كنت محرماً، فاتركه لخوف انتتاف الشعر كما اعتمده الرملي وتبعه ابن القاسم والزيادي والشبراملسي، وهو بأصابع اليد اليمنى من أسفلها على الأفضل، ومثلها كل شعر يكفي غسل ظاهره (ثم اغسل يدك اليمنى ثم اليسرى مع المرفقين إلى أنصاف العضدين فإن الحلية في الجنة تبلغ مواضع الوضوء) وحرك الخاتم وخلل قبل غسلهما أصابعهما، والأولى في تخليل اليد اليمنى أن يجعل بطن اليسرى على ظهر اليمني، وفي تخليل اليد اليسرى بالعكس خروجاً من فعل العبادة على صورة العادة في التشبيك، كذا في البجيرمي نقلاً عن الشوبري وابدأ باليمنى (وقل عند غسل اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيمني وحاسبني حساباً يسيراً) وهو المسمى بحساب العرض (وعند غسل الشمال: اللهم إني أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أومن وراء ظهري، ثم استوعب رأسك بالمسح بأن تبل يديك وتلصق رؤوس أصابع يدك اليمنى باليسرى وتضعهما على مقدمة الرأس) وتضع إبهاميك على صدغيك (وتمرهما) أي اليدين (إلى القفا ثم) إن انقلب شعرك (تردهما إلى المقدمة) ليصل الماء لجميع الرأس (فهذه) أي الإمرار والرد (مرة) لعدم تمام المسحة بالإمرار إلى القفا من غير رد إلى المبدأ فإن لم ينقلب شعرك لصفره أو لقصره أو عدمه، فلا ترد لعدم الفائدة لاستعال الماء فيما لا بد منه، وهو مسح البعض الواجب، فلا يحسب مرة ثانية (تفعل ذلك) أي الاستيعاب (ثلاث مرات وكذلك) أي فعل التثليث (في سائر الأعضاء وقل اللهم غشني) أي غطني (برحمتك وأنزل علي من بركاتك وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك) وفي الأذكار بدل ذلك (اللهم حرم شعري وبشري على النار) وأظللني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك (ثم امسح أذنيك ظاهرهما) وهو مما يلي الرأس (وباطنهما) وهو مما يلي الوجه (بماء جديد) أي غير ماء بلل الرأس (وأدخل مسبحتيك) أي رأسهما (في صماخي أذنيك) وأدرهما في المعاطف (وامسح ظاهر أذنيك ببطن إبهاميك) والوجه أشرف الأعضاء، فكن فيه منافذ في بعضها مرُّ كوسخ الأذنين والبعض ملح كالدمع، والبعض حامض كالذي في الأنف، والبعض عذب كالريق، وجملة منافذه ست العينان والأذنان والفم والأنف كذا قال الشيخ عطية (وقل، اللهم اجعلني من الذين يستمعون فيتبعون أحسنه اللهم أسمعني منادي الجنة) وهو سيدنا بلالبن رباح الحبشي (في الجنة مع الأبرار) أي المطيعين لله (ثم امسح رقبتك وقل اللهم فك رقبتي) أي ذاتي (من النار وأعوذ بك من السلاسل والأغلال) قال النووي ومسح الرقبة بدعة لا يسن كما نقل عن شرح الروض (ثم اغسل رجلك اليمنى ثم اليسرى مع الكعبين) إن وجدا ومع قدرهما إن فقدا (وخلل) قبل غسلهما أصابعهما بأي كيفية كان والأفضل أن تخلل (بخنصر) اليد (اليسرى أصابع رجلك اليمنى مبتدئاً بخنصرها حتى تختم بخنصر اليسرى وتدخل الأصابع من أسفل) أي أسفل الرجلين فيكون التخليل بخنصر من خنصر إلى خنصر،  أي بخنصر اليد اليسرى، ويبتدىء بخنصر الرجل اليمنى، ويختم بخنصر الرجل اليسرى، وادلك أعضاءك المغسولة بعد إفاضة الماء عليها، وبالغ في العقب خصوصاً في الشتاء. (وقل: اللهم ثبت قدمي) بكسر الميم وهو مفرد مضاف فيعم الاثنين (على الصراط المستقيم) يوم تزل الأقدام في النار (وقل عند غسل اليسرى: اللهم إني أعوذ بك أن تزل قدمي) بالإفراد ولو أريد المثنى لقيل قدماي: بألف بعد الميم (على الصراط في النار يوم تزل أقدام المنافقين) والأخصر من ذلك ما في الأذكار للنووي وهو أن تقول عند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط (وارفع الماء إلى أنصاف الساقين وراع التكرار ثلاثاً في جميع أفعالك) من الغسل والمسح والتخليل والدلك والسواك، وسائر الأذكار كالبسملة والتلفظ بالنية كما نقله عطية عن الشبراملسي، والتشهد آخر الوضوء، وأما دعاء الأعضاء فقال النووي: لم يجىء فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي دعوات جاءت عن السلف الصالحين، وزادوا ونقصوا فيها. وقال ابن حجر: ورد ذلك من طرق لا تخلو من كذب، لكن المحلي والرملي الكبير والصغير اعتمدوا استحبابه لورود ذلك في تاريخ ابن حبان وغيره، وإن كان ضعيفاً، لأن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، فشرط العمل بالحديث الضعيف عدم شدة ضعفه، وأن يدخل تحت أصل عام، وأن يكون في العبادات (فإذا فرغت) أي من التطهر (فارفع بصرك إلى السماء) ولو كنت أعمى وارفع يديك واستقبل القبلة بصدرك، لأن السماء قبلة الدعاء، ولأن حوائج العباد في خزانة تحت العرش، فالداعي يمد يديه لحاجته، ولأن الكعبة أشرف الجهات (وقل: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) كما رواه مسلم والترمذي (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت عملت سوءاً) أي ذنباً (وظلمت نفسي) أي بارتكاب المعاصي (أستغفرك) أي أطلب منك المغفرة وهي ستر الذنب من غير مصاحبة عقوبة (وأتوب إليك) أي آتي بصورة التائب الخاضع الذليل، أو المعنى: أسألك أن تتوب عليَّ، كما رواه الحاكم إلا قوله: عملت سوأ وظلمت نفسي، فليس فيه (فاغفر لي وتب علي) أي أنقذني من المعاصي (إنك أنت التواب الرحيم اللهم اجعلني من التوابين) من الذنوب والراجعين عن العيوب (واجعلني من المتطهرين) أي بالإخلاص عن تبعات الذنوب السابقة، وعن التلطخ بالسيآت اللاحقة، أو من المتطهرين من الأخلاق الذميمة، فيكون فيه إشارة إلى أن طهارة الأعضاء الظاهرة لما كانت بيدنا طهرناها، وأما طهارة الأعضاء الباطنة، فإنما هي بيدك فأنت تطهرها بفضلك، وهاتان الكلمتان رواهما الترمذي. (واجعلني من عبادك الصالحين) أي القائمين بما عليهم من حقوق الله وحقوق عباده (واجعلني) عبداً (صبوراً شكوراً) أي كثير الصبر وكثير الشكر لك، والصبر هو تعظيم الله تعالى تعظيماً يمنع عن الجزع فيما أصابه، ويحمل الصبر على الشكر، وهو تعظيم المنعم، وهو يمنع عن الكفران ويحمل على الصبر فأحدهما لا ينفك عن الآخر، لأن الباعثة عليهما واحدة، وهي الاستقامة (واجعلني أذكرك ذكراً كثيراً وأسبحك بكرة وأصيلاً) أي عشياً، وهو ما بعد صلاة العصر إلى الغروب كما في المصباح وقل عقب ذلك: وصلى الله وسلم على محمد وآل محمد وأصحابه، ويستحب أن يكرر ذلك ثلاثاً (فمن قرأ هذه الدعوات) التي رواها مسلم والترمذي والحاكم (في وضوئه) أي بعده (خرجت) جميع (خطاياه) أي ذنوبه (من جميع أعضائه) وكتب هذا اللفظ في جلد (وختم) أي طبع (على وضوئه) أي ثوابه (بخاتم) بفتح التاء ويصان صاحبه من تعاطي مبطل ثوابه بأن يرتد والعياذ بالله تعالى، وفي ذلك بشرى بأن من قال تلك الدعوات لا يرتد، وأنه يموت على الإيمان (ورفع له) أي الوضوء (تحت العرش فلم يزل) أي الوضوء (يسبح الله تعالى) أي ينزهه عما يقول الجاحدون (ويقدسه) أي يطهره عن كل نقص وما خطر بالبال (ويكتب له) أي للمتوضىء (ثواب ذلك) أي التسبيح والتقديس (إلى يوم القيامة) ويتجدد ذلك بتعدد الوضوء، لأن الفضل لا امتناع عليه، فإذا قال تلك الدعوات ثلاثاً عقب الوضوء كتب ثلاث مرات، وما ذلك على الله بممتنع، وقرأ إنا أنزلناه ثلاثاً، فإن من قرأها مرة واحدة في أثر وضوئه كان من الصديقين، ومن قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء، ومن قرأها ثلاثاً حشره الله محشر الأنبياء، كما في الحديث، ويسن بعد قراءة تلك السورة أن تقول: اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي ولا تفتني بما زويت عني.
     (تنبيه) يندب إدامة الوضوء. لما ورد في الحديث القدسي: يا موسى إذا أصابتك مصيبة وأنت على غير وضوء، فلا تلومن إلا نفسك ولقوله صلى الله عليه وسلم: "دُمْ عَلَى الطَّهارَةِ يُوسِعُ عَلَيْكَ الْزِّزْقُ". كما أفاد ذلك البجيرمي نقلاً عن سيدي مصطفى البكري. (واجتنب في وضوئك سبعاً) من الخصال (لا تنفض يديك فترش الماء) لأن النفض كالتبري من العبادة، فهو خلاف الأولى وكذا التنشيف بلا عذر، وهو أخذ الماء بخرقة، أما إذا كان لعذر فيسن وتقدم حينئذٍ اليسار على اليمين، لأنه يزيل أثر العبادة. فينبغي البداءة فيه باليسرى ليبقى أثرها على الأشرف، كأن خرجت بعد وضوئك في هبوب ريح ينجس، أو آلمك شدة نحو برد والأولى أن لا يكون بذيلك ولا بطرف ثوبك ونحوهما، كما نقله الونائي عن الذخائر، ويسن تنشيف الميت بعد غسله (ولا تلطم وجهك ولا رأسك بالماء لطماً) بل تأخذ الماء بكفيك وتغسل وجهك بهما معاً وتمسح بهما رأسك (ولا تتكلم في أثناء الوضوء) بلا عذر ولا يكره الكلام له، ولو من عار. لأنهصلى الله عليه وسلم كلم أم هانىء يوم فتح مكة وهو يغتسل كما أفاده ابن حجر (ولا تزد في الغسل) أي والمسح (على ثلاث مرات) ولا تنقص عنها، فإن ذلك مكروه إلا لعذر كأن ضاق الوقت بحيث لو اشتغل بالتثليث لخرج الوقت، فحينئذٍ يحرم التثليث، أو قل الماء بحيث لا يكفيك إلا للفرض، فتحرم حينئذٍ الزيادة عليه أو احتجت إلى الفاضل عن الماء لعطش، فيحرم عليك التثليث، وإدراك الجماعة أفضل من تثليث الوضوء، وسائر آدابه التي لم يقل المخالف بوجوبها كمسح جميع الرأس والدلك للأعضاء والأقدم على الجماعة (ولا تكثر صب الماء) بحيث يزيد على ما يكفي العضو، وإن لم يزد على الثلاث (من غير حاجة) ولو على شط نهر فذلك مكروه إذا كان (بمجرد الوسوسة) وكان الماء مملوكاً له أو مباحاً، فإن كان موقوفاً فأحرم الإسراف (فللموسوسين شيطان يضحك) وفي بعض النسخ يلعب (بهم) أي يهزأ بهم (يقال له الولهان) بسكون اللام وهو الذي يوله الناس بكثرة استعمال الماء، وذكر بعضهم أن لإبليس تسعة من الولد لكل منهم اسم وعمل، فمنهم خنزب وهو الموسوس في الصلاة، والولهان وهو الموسوس في الطهارة، والثالث زلنبور بزاي مفتوحة ولام مشددة بعدها نون فموحدة وآخره راء، وهو في كل سوق يزين للبائعين اللغو والحلف الكاذب، ومدح السلعة وتطفيف الكيل والميزان، والرابع الأعور وهو شيطان الزنى ينفخ في إحليل الرجل وعجر المرة، والخامس الوسنان بواو مفتوحة وسين مهملة ساكنة ونونين بينهما ألف، وهو شيطان النوم يثقل الرأس والأجفان عن القيام إلى الصلاة ونحوها، ويوقظ إلى القبيح من زنى ونحوه. والسادس تبر بفوقية فموحدة فراء وهو اسم شيطان المصيبة يزين الصياح ولطم الخدود ونحوه. والسابع داسم بدال وسين مهملتين بينهما ألف، وهو اسم شيطان الطعام يأكل مع الإنسان ويدخل المنزل إن لم يسم عند طعامه ودخوله، وينام على الفراش، ويلبس الثياب إن لم تكن مطوية، وذكر اسم الله عليها وقيل: إنه يسعى في إثارة الخصام بين الزوجين ليفرق بينهما. والثامن مطون بميم مفتوحة فطاء مهملة وآخره نون، ويقال مسوط بسين مهملة مضمومة وآخره طاء مهملة، وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها على ألسنة الناس، ثم لا يوجد لها أصل. والتاسع الأبيض بموحدة فتحتية فضاد معجمة موكل بالأنبياء والأولياء، أما الأنبياء فسلموا منه، وأما الأولياء فهم مجاهدون له فمن سلمه الله سلم، ومن أغواه الله غوى كذا أفاده حسينبن سليمان الرشيدي. (ولا تتوضأ بالماء المشمس) أي ما أثرت فيه الشمس بحيث قويت على أن تفصل بحدتها زهومة من الإناء الذي يقبل المطرقة غير النقدين، ولو مغطى، لكن كراهة المكشوف أشد لما روى عن عائشة أنها سخنت ماء في الشمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص". وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لضعف سنده يقويه خبر عمر رضي الله عنه أنه كان يكره الاغتسال بالمشمس.
     وروي أنه قال: لا تغتسلوا بالماء المشمس، فإنه يورث البرص، ولا تخللوا بالقصب فإنه يورث الآكلة، وهذا مشتهر بين الصحابة، فصار إجماعاً سكوتياً وقيس بالاغتسال باقي أنواع الاستعمالات في البدن ظاهراً وباطناً بأن يشرب ذلك الماء (ولا) تتوضأ (من الأواني الصفرية) بل من الخزفية أو الجلدية أو الخشبية لما قد روي عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما من كراهية إناء الصفر (فهذه السبعة مكروهة في الوضوء) أي مشتملة على خلاف الأولى كما في النفض والتكلم (وفي الخبر) الذي رواه عبدالرزاق عن الحسن الكوفي (إن من ذكر الله عند وضوئه طهر الله جسده كله ومن لم يذكر الله لم يظهر منه إلا ما أصابه الماء) قال عليبن أحمد العزيزي في معنى هذا الحديث، أي من سمى الله أول الوضوء طهر الله جسده الظاهر والباطن، فإن لم يذكر اسم الله عنده لم يظهر منه إلا الظاهر دون الباطن.
     (تتمة) يسن الوضوء في مواضع، نظمها بعضهم من بحر الطويل بقوله:
وَيُنْدَبُ لِلْمَرْءِ الُوضُوءُ فَخْذْ لَدَى >< مَوَاضِعَ تَأَتِي وَهْيَ ذاتُ تَعَدُّدِ
قِرَاءَةُ قُرْآنٍ، سَمَاعُ رِوَايَةٍ >< وَدَرْسٌ لِعِلْمٍ وَالدَّخُولُ لِمَسْجِدِ
وَذِكْرٌ وَسَعْيٌ مَعْ وُقوفٍ بِعَرْفَةٍ >< زِيارَةُ خَيْرِ العَالَمِينَ مُحَمَّدِ
وَبَعْضُهُمْ عَدَّ القُبُورَ جَمِيعَها >< وَخُطْبَةُ غَيْرِ الجُمْعَةِ اضْمُمْ لِمَا بُدِي
وَنَوْمٌ وَتَأَذِينٌ وَغُسْلُ جَنَابَةٍ >< إقَامَةٌ ايضاً والعِبَادَةُ فَاعْدُدِ
وَإنْ جُنُباً يَخْتارُ أكْلاً وَنَوْمَةً >< وَشُرْباً وعَوْداً لِلْجِمَاعِ المُجَدَّدِ
وَمِنْ بَعْدِ فَصْدٍ أَوْ حِجَامَةِ حَاجِمٍ >< وَقَيْءٍ وَحَمْلِ المَيْتِ وَاللَّمْسِ بِاليَدِ
لَهُ أَوْ لِحُنْثَى أَوْ لَمْسٍ لِفَرْجِهِ >< وَمَسَ وَلَمْسٍ فِيهِ خُلْفٌ كَأمْرَدِ
وَأَكْلِ جَزُورٍ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ >< وَفُحْشٍ وَقَذْفٍ قَوْلِ زُورٍ مُجَرَّدِ
وَقَهْقَهَةٍ تَأتِي المُصَلِّي وَقَصِّنا >< لِشَارِبِنَا وَالحَلْقِ وَالغَضبِ الرَّدي
بُلُوغٍ بِسِنَ مَسِّ فَرْجِ بَهِيمَةٍ >< خُرُوجٍ لِشَيْءٍ مِنْ فُتُوحٍ وَمُرْتَدِ
وَرَفْعِ لُصُوقٍ لَمْ يَكُنْ قَطُّ يَنْدَمِل >< وَمَسَ للانفتاح إن كانَ مِنَ معدِ
وَحَمْلٍ لِتَفْسِيرٍ إذا كانَ أَكْثَرَ >< مِنَ المُصْحَفِ الرَّسْمِيِّ صِلِّ وَجَدِّدِ
وشرح هذه الأبيات أن الوضوء الشرعي لا اللغوي الذي هو مجرد غسل اليدين يطلب في مواضع كثيرة في قراءة قرآن، أي إرادته وفي سماع للقرآن وللحديث، وفي رواية الحديث غير الموضوع يقيناً أي تحمله رواية عن الشيخ، وفي تعلم علم شرعي من تفسير وحديث وفقه، وتعليمه للطلبة. أما آلاته فلا يسن لها الوضوء وفي دخول المسجد ولو ماراً ولو لجنب، وفي ذكر الله تعالى، وفي سعي بين الصفا والمروة، وفي وقوف عرفة وفي زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة سائر القبور، وفي خطبة غير الجمعة، وفي نوم ليلاً أو نهاراً ولو قليلاً قاعداً متمكناً، وفي أذان، وفي غسل جنابة وغيرها من غسل واجب ومندوب، وفي إقامة الصلاة وفي العبادة ككتابة الفقه وكرمي الجمار، وعند إرادة الجنب أكلاً ولو محرماً كمغصوب أو شرباً كذلك أو نوماً، أو وطأ جائراً بأن أراد وطء حليلته ثانياً، وإن كانت الجنابة الأولى من غير وطء أما المحرم كالزنى، فلا يسن له الوضوء، وفي فصد وحجامة وقيء، أي بعدها وفي حمل ميت، أي قبله وبعده، وفي مس جزء ميت، وإن لم ينقض الوضوء كالشعر والظفر فيسن بعده الوضوء وفي لمس الرجل أو المرأة بدن الخنثى وفي مس أحد قبليه ومحل سنية الوضوء بعد ذلك إذا مس كل من الرجل والمرأة غيرما له، وفي مس الأمرد الحسن لخلاف في نقضه الوضوء، وفي أكل لحم إبل، وفي غيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره، فيسن الوضوء بعدها، ولو كنت متوضئاً ونميمة، وهي السعي بين الناس بالإفساد، وفي فحش كسخرية ويمين غموس وشهادة زور، وفي قذف زنى، وفي قول كذب لغير مصلحة، وفي قهقهة في الصلاة، فإن القهقهة داخل الصلاة تبطل الوضوء عند أبي حنيفة أما القهقهة خارجها، فلا تبطل الوضوء عنده كما قرره شيخنا عبدالحميد والشيخ يوسف السنبلاويني، وفي قص شارب وسبال، وفي حلق الرأس، وفي الغضب ولو لله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ، وفي البلوغ بالسن فيسن له الوضوء مع استحباب الغسل أيضاً، لأن الوضوء يطلب له استقلالاً بدون الغسل، لأن حكمة الغسل احتمال نزول المني من حيث لا يشعر، ولذا ينوي به رفع الجنابة، وهذا لا يظهر في الوضوء، وفي مس فرج البهيمة فيسن الوضوء بعده، لأن مس المشقوق منه ينقض الوضوء على القول القديم أما دبر البهيمة فلا ينقض بلا خلاف، كما أفاده الدميري وفي خروج شيء من المنفتح مطلقاً أي في أي موضع كان، وفي الردة وكذا في قطع النية بعد فراغ الوضوء، وفي رفع لصوق الجرح عند توهم الاندمال فرآه لم يندمل وفي مس المنفتح تحت المعدة مع انفتاح الأصلي، وفي حمل كتب التفسير إذا كان التفسير أكثر من القرآن، وهذا باعتبار رسم مصحف سيدنا عثمان الذي اختص به نفسه المسمى بالإمام، وأما التفسير فباعتبار رسمه على قواعد علم الخط هذا ما اعتمده ابن حجر، وفي تجديد الوضوء بعد كل صلاة، ولو كان الوضوء المجدد مكملاً بالتيمُّم، سواء كان الوضوء الأول كله بالماء أو مكملاً بالتيمم أيضاً، فتطلب إعادة الوضوء وهذه الأمور بعضها يطلب الوضوء قبله وبعضها بعده كما لا يخفى، وفي جميعها يأتي بنية من نيات الوضوء، ولا يكفي نية السبب عنها كأن نوى الوضوء لقراءة القرآن، وكأن نوى سنة الوضوء للغضب بخلاف الأغسال المسنونة، فإنها تصح نية أسبابها، والفرق أن أكثر مقصودها النظافة، ومقصود هذا الوضوء العبادة، وإذا توضأ بنية سجود تلاوة أو شكر جاز له أن يصلي بها الفرض، ولو توضأ بنية قراءة القرآن أو اللبث في المسجد لم يجز له أن يصلي به الفرض، والفرق أن الطهارة لا تشترط للقراءة، فإنها تباح مع الحدث بخلاف سجود التلاوة، فإن من شرط صحته الطهارة، فلهذا جاز له أن يصلي به الفريضة.

آداب الغسل
     أي الواجب والمسنون (فإذا أصابتك جنابة من احتلام) أي إمناء (أو وقاع) أي جماع (فخذ الإناء) وفي نسخة فاحمل الإناء (إلى المغتسل) وضعه عن يمينك إن كنت تغترف منه وعن يسارك إن كنت تصب منه وسم الله تعالى أولاً (واغسل يديك أولاً ثلاثاً) ثم استنج كما مر (وأزل ما على بدنك) أي جسدك (من قذر) كمني ومخاط ومن نجاسة إن كانت (وتوضأ كما سبق في وضوئك للصلاة مع جميع الدعوات وأخر غسل قدميك) وفي نسخة رجليك (كيلا يضيع الماء) فإن غسلهما، ثم وضعهما على الأرض كان مثل إضاعة الماء، والأفضل أن تقدم الوضوء جميعه على الغسل، ولك أن تؤخره كله أو بعضه عنه وتنوي بالوضوء في صورة التأخير الفرضية إن أردت الخروج من الخلاف، وإلا نويت السنة بأن تقول: نويت الوضوء لسنة الغسل، وكذا في صورة التقديم إن تجردت جنابتك عن الحدث، وإلا فانو نية معتبرة في الوضوء (فإذا فرغت من الوضوء فصب الماء على رأسك) والمعتمد أن الأفضل بعد فراغ الوضوء أن تتعهد معاطفك، ثم تخلل رأسك ولو كنت محرماً، لكن برفق إن كان عليه شعر بأن تدخل أصابعك العشرة فيه، فتشرب بهاأصوله كما قاله ابن حجر، ثم تدلكه ثلاثاً كما قاله شيخ الإسلام في التحرير، ثم تصب الماء على رأسك (ثلاثاً وأنت) في أول ما تغسل من بدنك (ناو رفع الحدث من الجنابة) أو نحوه (ثم) صب الماء (على شقك الأيمن ثلاثاً ثم على) شقك (الأيسر ثلاثاً) وهذه الكيفية تحصل أصل السنة كما قاله البجيرمي، والكيفية الأخرى أن يغسل الرأس ثلاثاً، ثم شقه الأيمن من مقدمه ثلاثاً، ثم من مؤخره ثلاثاً ثم مقدم الأيسر ثلاثاً ثم مؤخره ثلاثاً فلا ينتقل إلى مؤخر ولا إلى أيسر إلا بعد تثليث مقدم وأيمن (وادلك ما أقبل من بدنك وما أدبر) وظاهر كلام المصنف أن المغتسل لا ينتقل إلى الأيسر حتى يثلث الأيمن، وصريح كلامه في الإحياء أن الدلك يكون بعد تمام الشقين (ثلاثاً ثلاثاً) لكن قال ابن حجر والشربيني: فالأكمل أن يغسل، ويدلك شقه الأيمن المقدم، ثم المؤخر ثم الأيسر كذلك فهذه مرة، ثم ثانية كذلك ثم ثالثة كذلك (وخلل شعر رأسك ولحيتك) سواء كان كثيفاً أو خفيفاً، ولا يجب على المرأة نقضِ الضفائر إلا إذا علمت أن الماء لا يصل إلى خلال الشعور (وأوصل الماء إلى) كل معطف من (معاطف البدن) وهو ما فيه انعطاف والتواء كطبقات البطن والموق واللحاظ والإبط والأذن، وداخل السرة وتحت المقبل من الأنف، فإن ذلك مما يغفل عنه، ويتأكد التعهد في الأذن خصوصاً في حق الصائم بأن يأخذ كفاً من ماء، ويضع الأذن عليه برفق مميلاً لها ليصل لمعاطفها من غير نزول لصماخها، فيضر به (ومنابت الشعر ما خف منه وما كثف) وإنما وجب غسل الكثيف هنا دون الوضوء لقلة المشقة هنا لعدم تكرره في كل صلاة بخلاف الوضوء، فإنه يتكرر كل وقت فخفف فيه.
     واعلم أن المضمضة والاستنشاق سنتان مستقلتان في الغسل، كما أنهما سنتان في الوضوء، ومحلهما قبل الوضوء، كما في فتح الجواد، وكره تركهما كترك الوضوء، ويسن تداركهما ولو بعد الفراغ من الغسل، لأن سنن الغسل لا تفوت بالفراغ منه لعدم اشتراط الترتيب في أفعاله، وهما عند مالك سنتان في الغسل والوضوء كما عندنا، وواجبان فيهما عند أحمد، وفرضان في الغسل سنتان في الوضوء عند أبي حنيفة (واحذر أن تمس ذكرك بعد الوضوء) أي وقبل تمام الغسل كما في الإحياء (فإن أصابته يدك فأعد الوضوء) وهذا موافق لابن حجر، وهذا ظاهر لأجل الخروج من الخلاف في عدم اندراج الأصغر في الأكثر. وقال البجيرمي. ولو أحدث بعد الوضوء وقبل الغسل لا تندب له إعادته على المعتمد عند الرملي، لأن هذا الوضوء لا يبطله الحدث، وإنما يبطله الجماع وبه يلغز فيقال لنا وضوء لا يبطله الحدث، وقد نظم السيوطي ذلك من بحر الكامل المجزو المرفل فقال:
قُلْ لِلْفَقِيهِ وَلِلْمُفِيدْ >< وَلِكُلِّ ذِي بَاعٍ مَدِيدْ
ما قُلْتَ فِي مُتَوَضِّىءٍ >< قَدْ جَاءَ بِالأمْرِ السَّدِيدْ
لا يَنْقُضُونَ وُضُوءَهُ >< مَهْمَا تَغَوَّطَ أَوْ يَزِيدْ
وَوُضُوءُهُ لَمْ يَنْتَقِضْ >< إلا بإيلاجٍ جَدِيدْ
ونظم الجواب بعضهم من ذلك أيضاً فقال:
يا مُبْدِىءَ اللُّغْزِ السَّدِيد >< يا وَاحِدَ العَصْرِ الفَرِيدْ
ه?ذا الوُضُوءُ هُوَ الَّذِي >< لِلْغُسْلِ سُنَّ كما تُفِيدْ
وَهُوَ الَّذِي لم يَنْتَقِض >< إِلاَّ بإيلاجٍ جَدِيدْ
(والفريضة من جملة ذلك كله) أي المذكور من الأفعال المطلوبة في الغسل سواء كان واجباً أو مندوباً شيئان (النية وإزالة النجاسة واستيعاب البدن) حتى الشعور والأظفار (بالغسل) وأما إزالة النجاسة التي لا تزول أوصافها بغسلة واحدة فهي شرط لصحة الغسل، فيجب قبله وأما إن زالت بذلك فإزالتها قبل الغسل سنة إذا وصل الماء إلى البشرة بغير تغير، وإلا وجبت، ثم استطرد المصنف بيان أركان الوضوء فقال (وفرض الوضوء) ستة (غسل الوجه) ولو بفعل غيره بلا إذنه إن كان ذاكراً للنية (واليدين مع المرفقين) إن وجدتا ومع قدرهما إن فقدتا، وأما إن وجدتا في غير محلهما المعتاد، فيحتمل اعتبار الغالب واعتبار وجودهما (ومسح بعض الرأس) من بشرته، وإن خرجت عن حده أو من شعره الذي في حده (وغسل الرجلين إلى الكعبين) كما في المرفقين (مرة مرة) في الأعضاء الأربعة (مع النية) المقرونة بأول مغسول من الوجه (والترتيب) ما بين الأعضاء الأربعة (وما عداها) أي الستة من أفعال الوضوء (سنن مؤكدة فضلها) أي تلك السنن (كثير وثوابها) أي جزاؤها عند الله تعالى (جزيل) أي عظيم (والمتهاون بها) أي المستحقر للسنن (خاسر بل هو) أي المتهاون (بأصل فرائضه مخاطر) أي مشرف على فساده لأن التهاون بالسنن يؤدي إلى التهاون بالفرائض (فإن النوافل جوابر للفرائض) أي فإن مات شخص ولم يفعل الفرائض من الصلوات يقوم كل سبعين من النوافل مقام ركعة من الفرض، وكذلك يقوم كل سبعين ريالاً من صدقة التطوع مقام ريال واحد من الزكاة، أما في الدنيا فلا يجبر ترك الفرائض بالنوافل، بل لا بد من فعلها، وأما الوضوء فهو مكفر للصغائر، فإن لم يكن عليه شيء من الصغائر حتت من الكبائر، ثم الفرائض هنا بالنسبة للوضوء هي اجتناب المعاصي، وذلك إن كان المراد بالنوافل سنن الوضوء صار معنى قوله: فإن النوافل جوابر للفرائض، أن إتيان سنن الوضوء جابر للفرائض التي هي ترك الذنوب المتعلقة بحقوق الله تعالى، بمعنى أنها مكفرة لتلك الذنوب زيادة على تكفير الوضوء بدون سننه لها، وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة أو الحجر المبرور، وكذلك الذنوب المتعلقة بحقوق الآدميين، فلا بد من التوبة وإلا فالقصاص عليه إن لم يجد فضلاً من الله تعالى، والله أعلم.

آداب التيمم
     وهو رخصة مطلقاً سواء كان الفقد حسياً أو شرعياً، وقيل عزيمة والرخصة إنما هي إسقاط القضاء، وقيل: إن كان الفقد حسياً فعزيمة، وإلا فرخصة بدليل صحة تيمم العاصي بالسفر قبل التوبة إن فقد الماء حساً، وبطلان تيممه قبلها إن فقده شرعاً، كأن تيمم لنحو مرض (فإن عجزت عن استعمال الماء) لأحد ستة أسباب فيحل لك التيمم وهي إما (لفقده) أي الماء (بعد الطلب) للماء في وقت الصلاة (أو لعذر من مرض أو لمانع من الوصول إليه) أي الماء (من سبع أو حبس) أي بغير حق، وهذا داخل في الفقدالحسي كما قاله عطية (أو كان الماء الحاضر) أي الموجود (تحتاج إليه لعطشك أو لعطش رفيقك) غير المرتد وتارك الصلاة والحربي والخنزير، ولو كان لحاجة إليه في المستقبل، فيجب عليك أن تدخره، ويحرم الوضوء به صوناً للروح أو العضو أو المنفقة من التلف (أو كان) الماء (ملكاً لغيرك ولم يبع إلا بأكثر) أي بأزيد (من ثمن المثل) أي اللائق به في ذلك الزمان والمكان، ولو كان الزائد على اللائق مما يتسامح بمثله عادة (أو كان بك جراحة) أو كسر وخفت من استعمال الماء فساد العضو مثلاً. وروى الحاكم أن رجلاً أصابه جرح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابه احتلام فأمروه بالاغتسال، فاغتسل فمات فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قَتَلُوهُ أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالَ" والعي بالعين المهملة الجهل (أو مرض تخاف منه على نفسك) الهلاك أو شدة الضنى وهو على وجه لا يحتمل عادة أو طول مدة البرء، وهو مقدار وقت المغرب، فإذا أردت التيمم (فاصبر حتى يدخل وقت الفريضة) لأن التيمم طهارة ضرورة، ولا ضرورة قبل الوقت (ثم اقصد صعيداً) أي وجه الأرض (طيباً) أي حلالاً (عليه تراب) أي على أي صفة كان (خالص) بأن لم يختلط بنحو جص ورمل ناعم يلصق بالعضو (طاهر) بأن لم يكن متنجساً ولا مستعملاً (لين) أي بحيث يرتفع منه غبار (فاضرب عليه) أي التراب (بكفيك ضاماً بين أصابعك) لأن الضربة الأولى مقصودة للوجه، فما فضل لليدين منها لا يعتد به، وهذا كما في الإحياء خلافاً لما قاله النووي والمحلي وشيخ الإسلام حيث قالوا: ويندب تفريق أصابعه في كل ضربة، لأنه أبلغ في إثارة الغبار، فلا يحتاج إلى زيادة على الضربتين (وانو استباحة فرض الصلاة) أو استباحة نحوه لا رفع الحدث، لأن التيمم لا يرفعه ويجب قرن النية بأول النقل، وأول مسح الوجه، ولا يضر عزو بها بينهما (وامسح بهما) أي كفيك (وجهك كله مرة واحدة) فإن تكرير المسح لكل عضو مكروه
     (ولا تتكلف) أي لا تتجشم على مشقة (إيصال الغبار إلى منابت الشعر خف أو كثف) فإنه لا يسن لعسره مع عدم طلب الإزالة في غير لحية المرأة أما تحت الأظفار، فيجب إيصال التراب إليه كالوضوء. لأن الأظافر مأمور بإزالتها (ثم انزع خاتمك) بفتح التاء، فإن نزع الخاتم في الضربة الثانية واجب ليصل التراب إلى محله، ولا يكفي تحريكه، لأن التراب لا يدخل تحته لكثافته بخلاف الماء، فإيجاب نزعه إنما هو عند المسح لا عند النقل، كذا أفاده أحمد الميهي، وأما في الأولى فمندوب ليكون مسح جميع الوجه باليد كما أفاده المحلي (واضرب ضربة ثانية مفرجاً) أي مفرقاً كما في نسخة (بين أصابعك) وإن لم تفرق أصابعك في هذه الضربة وجب عليك التخليل، لأنها المقصودة لليدين ولتستغني الأصابع بالتراب الواصل عن المسح بما على الكف (وامسح بهما) أي بكفيك (يديك مع مرفقيك فإن لم تستوعبهما) أي اليدين بتلك الضربة (فاضرب ضربة أخرى) أي ثالثة (إلى أن تستوعبهما ثم امسح إحدى كفيك بالأخرى وامسح ما بين أصابعك بالتخليل) ويسن أن يأتي بمسح اليدين على كيفيته المشهورة، وهي أن يضع بطون أصابع اليسرى سوى الإبهام تحت أطراف أنامل اليمنى، بحيث لا تخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى، ولا مسبحة اليمنى عن أنامل اليسرى، ويمرها على ظهر كفه اليمنى، فإذا بلغ الكوع ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع، ويمرها إلى المرفق ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، فيمرها عليه رافعاً إبهامه، فإذا بلغ الكوع أمر إبهام اليسرى على ظهر إبهام اليمنى، ثم يفعل باليسرى كذلك، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، وإنما لم يجب لأن فرضهما حصل بضربهما بعد مسح وجهه، وجاز مسح ذراعيه بترابهما لعدم انفصاله مع الحاجة، إذ لا يمكن مسح الذراع بكفها، فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه، لأن اليدين كعضو واحد كما أفاده البجيرمي (وصل به) أي بالتيمم الذي استبحت به الفرض (فرضاً واحداً وما شئت من النوافل) أي ومن صلاة الجنازة (فإن أردت فرضاً ثانياً) أي عينياً ولو منذوراً (فاستأنف له تيمماً آخر) وإن لم تحدث، وهكذا تفرد كل فريضة بتيمم. نعم إن كانت الصلاة الثانية معادة جاز أن تجمعها مع أصلها بتيمم، لأن المعادة تقع نفلاً، وإن كنت تنوي فيها الفرض، ويجوز أن تجمع أيضاً الظهر مع الجمعة بتيمم واحد.

آداب الخروج إلى المسجد
     أي للصلاة أو لنحو طلب علم (فإذا فرغت من طهارتك) أي من الحدثين (فصل في بيتك ركعتي الصبح إن كان الفجر قد طلع) واقرأ فيهما سورة الكافرون والإخلاص، أو اقرأ ألم نشرح لك، وألم تر كيف، فمن قرأ في ركعتي الفجر ألم نشرح لك، وألم تر كيف قصرت عنه يد كل عدو، ولم يجعل لهم عليه سبيل وهذا صحيح مجرب بلا شك، هكذا نقله البجيرمي عن الغزالي (كذلك) أي أداء لصلاة ركعتي الفجر في البيت (كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) يسن أن يفصل بين سنة الفجر والفريضة بالاضطجاع على شقه الأيمن أو الأيسر، واليمين أفضل ولو في المسجد، ولو أخرها على الفريضة كما قاله الونائي، وحكمة ذلك تذكر ضجعة القبر أو النهار ليكون باعثاً له على أعمال الآخرة، أو لإظهار العجز في أول النهار، ويقول في حال اضطجاعه: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ورب محمدصلى الله عليه وسلم أجرني من النار ثلاثاً (ثم توجه إل المسجد) لقوله صلى الله عليه وسلم: "ق?الَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ الكُتُبِ إِنَّ بيُوتِي في أَرْضِي المساجِدُ، وإِنَّ زُوَّارِي فيها عُمَّارُها، فطُوبَى لِعَبْدِ تَطَهَّرَ في بيْتِهِ، ثم زَارَنِي في بيْتِي، فَحَقَّ عَلَى المَزُورِ أنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ" (ولا تدع الصلاة في الجماعة) لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْماً الصَّلَوَاتِ في جَمَاعَةٍ لا تَفُوتُهُ فيها تَكْبيرَةُ الإْحرَامِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَتَيْنِ: بَرَاءَة مِنَ النِّفَاقِ وَبَرَاءَة مِنَ النَّارِ" (لا سيما الصبح) فإن الجماعة فيها أفضل من الجماعة في العشاء، والجماعة في هذه أفضل منها في سائر الصلوات.
     وأما أفضل الصلوات فهي صلاة العصر وفي الحديث من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة، ثم علل المصنف نهي ترك الجماعة بقوله (فصلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ) بفاء وذال معجمة أي المنفرد (بسبع وعشرين درجة) أي صلاة كما في الحديث (فإن كنت تتساهل) أي تتسامح (في مثل هذا الربح) وهو فضيلة الجماعة (فأي فائدة لك في طلب العلم وإنما ثمرة العلم العمل به فإذا سعيت) أي ذهبت على أي وجه كنت وفي نسخة مشيت (إلى المسجد فامش على هينة) أي برفق من غير عجلة (وتؤدة) بضم التاء وفتح الهمزة أي تأن وتثبت (وسكينة) كما في نسخة (ولا تعجل) وهذا تفسير لما قبله (وقل في طريقك: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق الراغبين إليك وبحق ممشاي) أي سيري (هذا) أي الذي أنا فيه (إليك) أي إلى بيتك، أي إلى البيت الذي يعبدونك فيه وهو المسجد (فإني لم أخرج) أي من بيتي إلى ذلك المحل (أشرا) بفتح الشين أي كفراناً للنعمة (ولا بطراً) أي شدة مرح (ولا رياء) أي نفعاً دنيوياً (ولا سمعة) أي ذكراً جميلاً عند الناس (بل خرجت) من بيتي (اتقاء سخطك) أي اجتناب غضبك (وابتغاء) أي طلب (مرضاتك فاسألك أن تنقذني) أي تنجيني، وفي الأذكار للنووي: أن تعيذني أي تمنعني (من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) وفي كتاب ابن حجر بعد ذلك زيادة: يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين.

آداب دخول المسجد
     أي وبيان جملة الأذكار (فإذا أردت الدخول إلى المسجد) ووصلت بابه، فانزع نعلك اليسرى أولاً، وحط رجلك اليسرى على ظهره، ثم انزع نعلك اليمنى (فقدم رجلك اليمنى) ومثل المسجد كل محل شريف، وكذا ما جهل حاله ولو خرج من مسجد إلى مسجد قدم يمينه، وفي الكعبة يقدم يمنيه دخولاً وخروجاً، كذا أفاده الونائي (وقل) عند إرادة الدخول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، الحمد لله، كما في الأذكار. ثم قل: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك) ثم قل بسم الله ثم ادخل، وإذا خرجت فقدم رجلك اليسرى، وقل ذلك إلا أنك تقول: وافتح لي أبواب فضلك وحكمة ذكر الرحمة في الدخول، والفضل في الخروج أن المساجد محال رحمة الله تعالى لعباده رحمة تناسب العبادة، وأما الخروج منها فهو إلى محل الأسباب التي تحصل بها الأرزاق، والغنى عن الناس، فهذا من مظاهر الفضل التي تفضل الله بها على عباده، كما أفاده ابن حجر (ومهما رأيت في المسجد من يبيع أو يبتاع فقل: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيت فيه من ينشد) بضم الشين أي يطلب (ضالة فقل: لا رد الله عليك ضالتك، كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) كما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبيعُ أوْ يَبْتَاعُ في المَسْجِدِ فَقُولُوا لا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك، وإذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فيهِ ضَالَّةً" فَقُولوا: لا رَدَّها اللَّهُ علَيْكَ؟ وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المَسْجِدِ، فَلَيْقُلْ: لا رَدَّها اللَّهُ عَلَيْكَ فإنَّ المَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِه?ذا". (فإذا دخلت المسجد) ولو مشاعاً أو مظنوناً (فلا تجلس حتى تصلي ركعتي التحية) لكن إذا دخلت المسجد الحرام وأردت الطواف، فالأفضل أن تبدأ بالطواف، ثم تنوي بالركعتين سنة الطواف وتحية المسجد معاً فإن نويت أحدهما اندرج الآخر، وإن لم تنوه، لأن تحية المسجد الحرام لا تفوت بالطواف كما نقله الونائي عن ابن قاسم، وتكره التحية إذا وجد المكتوبة تقام بالكلمات المعروفة، وتكره أيضاً إذا توهم فوت الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، أما إذا تحقق فوتها.
     فإن كانت فرضاً حرمت التحية، أو نفلاً كرهت، ويندب لمن لم يأت بالتحية لحدث أو غيره، كأن لم يردها، وإن كان متطهراً، أو اشتغل بشيء آخر أن يقول أربع مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنها تعدل ركعتين في الفضل فتندفع الكراهة بذلك، وهذا حيث لم يتيسر له الوضوء في المسجد قبل طول الفصل، وإلا فلا يكفي ذلك لتقصيره بترك الوضوء مع تيسره (فإن لم تكن صليت في بيتك) أي مثلاً (ركعتي الفجر فيجزئك أداؤهما) أي ركعتي الفجر (عن التحية) لأنها تحصل بكل نفل وبمكتوبة، وإن لم تنو مع ذلك لأن المقصود وجود صلاة قبل الجلوس، وقد وجدت بذلك. قال البجيرمي إذا نوى التحية مع فرض مثلاً، حصل ثوابها اتفاقاً، وإذا نفاها فلا يحصل اتفاقاً، وإن أطلق حصل الثواب على المعتمد (فإذا فرغت من الركعتين) اللتين صليتهما لسنة الفجر أو للتحية (فانو الاعتكاف) وهو اللبث في المسجد بنية الاعتكاف، لأنه سنة مؤكدة كل وقت. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن اعْتَكَف فُوَاقَ نَاقَةٍ فَكَأنَّما أَعْتَقَ نَسَمَةً؟". وفواق بضم الفاء وآخره قاف، أي مقدار زمن حلب ناقة والمراد بالنسمة هنا الرقيق (وادع بما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر) كما رواه ابن عباس، لكن روى الترمذي وغيره عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بهذا بعد فراغه من صلاته ليلة الجمعة (فقل: اللهمَّ إِنِّي أسألكَ رحمةً مِنْ عندكَ) أي من فضلك وكرمك لا بمقابلة عمل من عندي، وفي رواية بسقوط لفظ من عندك (تَهْدِي بها قلبي) أي تدله إليك وتقربه لديك (وَتجمعُ بها شَمْلي) أي ما تشتت من أمري وفي الشفاء، والجامع الصغير بدل ذلك أمري أي حالي عليك (وَتلمُّ) بضم اللام وتشديد الميم (بها شَعَثِي) بفتحتين أي تصلح بها ما تفرق من أموري، وفي شرح الشفاء أي تجمع بها تفرق خاطري، وتضم بها تشتت أمري (وَتَرُدُّ) أي تجمع (بها أُلْفَتِي) بضم الهمزة وقد تكسر، أي مألوفي أي ما كنت آلفه (وَتُصْلِحُ بها دِيني، وتحفظ بها غائبي) أي باطني بكمال الإيمان والأخلاق الحسان (وَتَرْفَعُ بها شاهِدِي) أي ظاهري بالأعمال الصالحة والهيئة السنية، أو يراد بالغائب والشاهد الأتباع الغائبون والحاضرون (وَتُزَكِّي بها عملي) أي تزيد ثوابه أو تطهره من الرياء والسمعة والعجب (وَتُبيِّضُ بها وَجْهِي) أي يوم القيامة (وَتلهمني بها رشدي) أي صلاح حالي في الحال والمآل (وتقضي لي حاجتي وتعصمني) أي تحفظني (بها من كلِّ سُوء) بضم السين وقد تفتح وهو لضرر الحسي والمعنوي بأن تعرفني عنه، وتصرفه عني (اللهم إني أسألكَ إيماناً دائماً) وفي نسخة خالصاً وفي الإحياء ذكر عدم ذلك الوصف (يُبَاشِرُ قَلْبي) أي يخالطه (ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنَّهُ) أي الشأن وفي نسخة أن (لَنْ يُصيبني إلا ما كَتَبْتَهُ عَلَيَّ) أي قدرته عليّ في العلم الأزلي أو في اللوح المحفوظ (وَرَضِّني بما قَسَمْتَهُ لي) أي وأسألك أن ترزقني رضا بما قسمته لي من الرزق والمعيشة، وهذا الدعاء لم يذكر في الإحياء، ولا في الشفاء ولا في الجامع في هذا الموضع، بل ذكر في الإحياء أن هذا دعاء آدم، والدعاء الذي قبل هذا وبعده ملتصقان في الإحياء وفي الجامع (اللهمَّ إني أسألكَ) وفي الإحياء والجامع: اللهم أعطني (إيماناً صادقاً ويقيناً) أي في الله تعالى (لَيْسَ بعده كفرٌ وأسألكَ رحمةً أنالُ بها شَرَفَ كرامتكَ في الدُّنيا والآخِرَةِ) وفي الجامع شرف الدنيا والآخرة أي علو القدر فيهما (اللهمَّ إني أسألكَ الفوزَ عند اللقاءِ) أي لقاء الله بالموت ثم البعث أو عند لقاء الكفار (والصَّبْرَ عندَ القضاءِ) أي حين حلول ضيق القضاء وفي الشفاء والجامع بدل الكلمتين أسألك الفوز في القضاء، أي النجاة فيما قضيته أي قدرته عليّ من البلاء، أو الفوز باللطف في القضاء وفي الإحياء بدلهما أسألك الفوز عند القضاء، أي حين حلول القضاء بتوفيق الرضا (وَمَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ) وفي الشفاء والجامع ونزل الشهداء بضم النون والزاي، وقد تسكن الزاي أي منزلتهم في الجنة أو درجتهم في القرب منك (وَعَيْشَ السُّعَداءِ) أي الحياة الطيبة المقرونة بالطاعة والقناعة من غير تعب، كذا في شرح الشفاء. وقال العزيزي أي الذين قدرت لهم السعادة الأخروية (وَالنَّصْرَ على الأعداءِ) أي من النفس والشياطين وسائر الكافرين (وَمُرافَقَةَ الأنبياءِ) وفي الجامع والشفاء عدم هذه الكلمة، وفي نسخة تقديمها على ما قبلها (اللهم إني أنزل) بضم الهمزة (بِكَ حَاجَتِي) أي أسألك قضاء ما أحتاجه من أمر الدارين (وَإِن ضَعُفَ رَأيي) أي عجز عن إدراك ما هو أنجح وأصلح (وَقَصَّرَ) بالتشديد (عَمَلي) أي عبادتي فلا تبلغ مراتب الكمال، وفي الجامع وإن قصر رأيي وضعف عملي (وافتقرتُ) في بلوغ ذلك (إلى رَحْمَتِكَ) وفي الجامع إسقاط الواو. (فأسألكَ يا قاضِيَ الأمورِ) أي يا مقدرها أو يا مبلغها (ويا شافيَ الصُّدُورِ) أي القلوب من أمراضها كالحقد والحسد والكبر (كما تجيرُ بين البحُورِ) أي تمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر مع الاتصال (أن تجيرني) أي تنقذني مفعول ثاني لأسألك (مِنْ عذابِ السَّعِيرِ) أي النار (ومن دَعْوَةِ الثَّبور) أي من النداء بالهلاك والخسران في المحشر (وَمِنْ فِتْنَةِ القُبُورِ) أي عند سؤال الملكين منكر ونكير (اللهمَّ ما قَصرَ عنهُ رأيي) أي عجز عنه عقلي (وَضَعُفَ عنه عملي) أي كسبي (ولم تبلغُه) أي تصله (نِيَّتي وأمنيتي) وفي الجامع بدل هذا الأخير ولم تبلغه مسألتي (من خَيْرٍ وَعَدْتَهُ أحداً من عبادك أو خيرٍ أنتَ معطيهِ أحداً من خلقكَ فإنّي أرغبُ إليكَ) أي أتوجه إليك وأطلب منك (فيه) أي في حصوله منك لي (وأسألكَ إياه) أي زيادة على ذلك، فإن رحمتك، لا نهاية لسعتها، كما أفاده العزيزي (يا رب العالمين اللهم اجعلنا هادين) أي دالين الخلق على ما يوصلهم إلى الحق (مُهتدينَ) أي إلى إصابة الصواب قولاً وعملاً (غير ضالِّينَ) أي عن الحق (ولا مضلين) أحداً من الخلق (حرباً) أي مقاتلة (لأعدائِكَ سلماً) بكسر فسكون، أي صلحاً (لأوليائكَ) وفي الجامع تقديم هذا على ما قبله (نحبّ بحبكَ) أي بسبب حبنا لك (النَّاسَ) وفي الإحياء بدل هذه الكلمة من أطاعك من خلقك، وفي الجامع بدلها أيضاً من أحبك (ونعادي بعداوتِكَ) أي بسببها (مَنْ خَالفَكَ) تنازعه نعادي وعداوتك (من خلقكَ) وهذه الكلمة لم تذكر في الجامع (اللهمَّ ه?ذا الدعاءُ) أي ما أمكننا منه قد أتينا به (وعليكَ الإجابةُ) أي فضلاً منك إذ لا يجب على الله تعالى شيء (وهذا الجهد) بضم الجيم أي الطاقة (وعليكَ التكلانُ) بضم التاء أي الاعتماد (وإنا للَّهِ وإِنّا إليه راجعونَ) أي بالموت ثم البعث (ولا حَوْل ولا قُوَّةَ إِلاَّ بالله العليِّ العظيم اللهمَّ ذا الحبل الشَّدِيدِ) الحبل بموحدة المراد به هنا القرآن أو الدين، ثم الشدة في الدين هي الثبات والاستقامة، وروي: الحيل بمثناة تحتية بمعنى القوة كما أفاده العزيزي (والأمرِ الرَّشِيدِ) أي الموافق لغاية الصواب (أسْأَلُكَ الأمْنَ) أي من الفزع الأكبر والأهوال (يومَ الوعيدِ) أي يوم التهديد وهو يوم القيامة (والجنةِ يومَ الخلودِ) أي خلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار (مَعَ المقربينَ الشُّهودِ) أي الناظرين لربهم (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي المكثرين للصلاة ذات الركوع والسجود في الدنيا (الموفين لك بالعهود) أي بما عاهدوا الله عليه (إنكَ رحيمٌ) أي موصوف بكمال الإحسان لدقائق النعم (ودودٌ) أي شديد الحب لمن والاك (وإِنكَ تفعلُ ما تريدُ سبحانَ من تَعَطَّفَ) أي اتصف (بالعِزِّ) بأن يغلب كل شيء ولا يغالبه شيء (وقالَ) أي غلب (بهِ) كل عزيز (سُبْحَانَ من لَبِسَ المجدَ) أي الذي اتصف بالعظمة والكبرياء (وَتَكَرَّمَ بهِ) أي تفضل وأنعم به على عباده (سبحانَ من لا ينبغي التسبيحُ) أي التنزيه المطلق (إِلا لهُ) أي لجلاله المقدس (سبحانَ ذي الفَضْلِ) أي الزيادة في العطاء (والنِّعَمِ) جمع نعمة بمعنى الأنعام (سبحانَ ذي الجودِ) أي العطاء وفي الإحياء ذي العزة وفي الجامع ذي المجد أي الشرف (والكَرَمِ) أي التفضل بالعطاء من غير سؤال (سبحانَ الذي أحْصَى كلَّ شيء بعلمهِ اللهمَّ اجْعَلْ لي نوراً في قلبي ونوراً في قبري ونوراً في سَمْعِي ونوراً في بَصَرِي ونوراً في شعري ونوراً في بشري ونوراً في لحمي ونوراً في دمي ونوراً في عظامي ونوراً من بين يدي) أي يسعى أمامي (ونوراً من خلفي) أي ورائي (ونوراً عن يمينى ونوراً عن شمالي ونوراً من فوقي ونوراً من تحتي اللهمَّ زدني نوراً وأعطني نوراً أعظمَ نورٍ واجْعَلْ لي) بجرياء المتكلم (نوراً برحمتكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) هذا من عطف العام على الخاص أي اجعل لي نوراً شاملاً للأنوار السابقة، ولغيرها قال القرطبي والتحقيق في معنى النور أنه مظهر لما ينسب إليه، وهو يختلف بحسبه فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات، وقال النووي نقلاً عن العلماء: طلب النور في أعضائه وجسمه وتصرفاته، وتقلباته وحلالاته، وجملته في جهاته الست حتى لا يزيغ شيء منها عنه انتهى. وهذا الدعاء موافق لما في الإحياء من غير زيادة ولا نقص، ومخالف لما في الجامع (فإذا فرغت من الدعاء فلا تشتغل إلى وقت الفرض إلا بفكر أو تسبيح أو قراءة قرآن) أو غير ذلك كتحميد واستغفار، كما روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قالَ صَبيحَةَ يَوْمِ الجُمُعَةِ قَبْلَ صَلاةِ الغَداةِ أَسْتَغْفِرُ الله الَّذِي لا إِل?هَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ وأَتُوبُ إِليهِ ثلاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالى ذُنُوبَهُ، ولو كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ".
     وروي عن أم رافع رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا أُمَّ رَافِعٍ إذا قُمْتِ إلى الصَّلاةِ فَسَبِّحِي اللَّهَ عَشْراً وَهَلِّلِيهِ عَشْراً وَاحْمَدِيهِ عَشْراً وَكَبِّريهِ عَشْراً وَاسْتَغْفِرِيهِ عَشْراً، فإِنَّكَ إذا سَبَّحْتِ قالَ ه?ذا لي، وإذا هَلَّلْتِ قال ه?ذا لي، وإذا حَمِدْتِ قال ه?ذا لي، وإذا كبَّرْتِ قال هذا لي، وإذا اسْتَغْفَرْتِ قال: قَدْ فَعَلْتُ". كذا في الأذكار للنووي، وفي الحديث من قال بين طلوع الفجر وصلاة الصبح: سبحان الله العظيم وبحمده، سبحان من يمن ولا يمن عليه، سبحان من يجير ولا يجار عليه، سبحان من لا يبرأ من الحول والقوة إلا إليه سبحان من التسبيح منة منه على من اعتمد عليه، سبحان من يسبح كل شيء بحمده، سبحانك لا إله إلا أنت يا من يسبح له الجميع تداركني بعفوك، فإني جزوع، ثم يستغفر الله مائة مرة، فإنه لا يأتي عليه أربعون يوماً إلا وقد أتته الدنيا بحذافيرها، أي بأسرها وذلك بشرط التقوى كذا نقله البجيرمي عن سيدي أحمد زروق. (فإذا سمعت الأذان في أثناء ذلك) أي المذكور من الأوراد (فاقطع ما أنت فيه) واستمع الأذان لأن استماعه في وقته أفضل من استماع القرآن، وإن كان القرآن أفضل منه، كذا أفاده الونائي نقلاً عن الزيادي (واشتغل بجواب المؤذن) ولو كنت طائفاً أو مدرساً أو جنباً أو نحو ذلك، لا إن كنت مصلياً ولو نفلاً ولا إن كنت قاضي الحاجة أو مجامعاً أو مستمع الخطيب، بل إذا سلمت من الصلاة أجبته كما يجيبه من لا يصلي، فلو أجبته في الصلاة كره ذلك الجواب، ولم تبطل صلاتك إلا إذا قلت: صدقت وبررت، فتبطل. وكذا إذا خرجت من الخلاء فأجبه (فإذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقل) عقب كل كلمة (مثل ذلك) ولك المقارنة على خلاف فيها (وكذلك) أي أن تقول مثل قول المؤذن (في كل كلمة إلا في الحيعلتين فقل فيهما) أي دبر كل لفظة منهما (لا حول) أي لا تحول عن المعصية (ولا قوة) أي على الطاعة (إلا بالله العلي العظيم) ويسن أن تقول بعد قولك وأشهد أن محمداً رسول الله في الجواب، وأنا أشهد أن محمداً رسول الله ثم تقول رضيت بالله رباً وبمحمدصلى الله عليه وسلم رسولاً وبالإسلام ديناً، ويسن أيضاً إذا سمعت المؤذن يقول: حي على الفلاح، أن تقول: اللهم اجعلنا مفلحين. (فإذا قال) أي المؤذن (الصلاة خير من النوم) أي اليقظة إلى الصلاة خير من راحة النوم (فقل) في الجواب (صدقت وبررت) وزاد في الإحياء بعد ذلك نصحت وزاد بعضهم وبالحق نطقت (وأنا على ذلك من الشاهدين) مرتين، وبررت بكسر الراء وفتحها، أي صرت ذا بر، أي خير كثير وقيل يقول المجيب في ذلك صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإذا سمعت الإقامة فقل) في الجواب (مثل ما يقول) أي المقيم (إلا في قوله قد قامت الصلاة فقل) في جواب كل من المرتين (أقامها الله وأدامها ما دامت السماوات والأرض) ويسن أن يزيد بعد ذلك، وجعلني من صالحي أهلها (فإذا فرغت من جواب المؤذن) في الأذان، أي ومن جواب المقيم في الإقامة أو فرغت من الأذان، والإقامة إن كنت مؤذناً مقيماً فصل وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم (فقل اللَّهم: إني أسألك عند حضور صلاتك وأصوات دعاتك) بضم الدال وبالتاء في آخره جمع داع (وأدبار ليلك وإقبال نهارك أن تؤتي محمداً الوسيلة) أي المنزلة العلية في الجنة التي لا تنبغي إلا لهصلى الله عليه وسلم (والفضيلة) أي المرتبة الزائدة على سائر المخلوقين كما أفاده القسطلاني (والدرجة الرفيعة وابعثه المقام) أي أعطه المقام مفعول به لابعثه لتضمنه معنى أعطه أو مفعول فيه، أي أقمه في المقام كما أفاده البجيرمي (المحمود الذي وعدته) بقولك تباركت وتعاليت عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً (إنك لا تخلف الميعاد يا أرحم الراحمين) وهذا الدعاء مخصوص في وقت الصبح، أما الدعاء الذي يسن للمؤذن والمقيم وسامعهما في كل وقت، فهو الدعاء المشهور، وهو: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، أي يسن بعد فراغ الأذان والإقامة لكل من المؤذن والسامع والمستمع غير إمام الجمعة في الإقامة أن يدعو بهذا الدعاء بعد الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، كما أفاده الونائي فمعنى هذه الدعوة التامة هي الأذان سمي بذلك لجمعه العقائد بتمامها، ومعنى القائمة أي الدائمة التي لا تغيرها ملة ولا تنسخها شريعة ومعنى: وابعثه مقاماً، أي أعطه مقاماً أو أقمه في مقام، أو ابعثه ذا مقام محمود، وهو هنا اتفاقاً مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء يحمده فيه الأولون والآخرون، لأنه المتصدي له بسجوده له أربع سجدات تحت العرش حتى أجيب لما فزعوا إليه بعد فزعهم لآدم، ثم لأولي العزم نوح فإبراهيم فموسى فعيسى واعتذار كل منهم، والموصول مع الصلة إما بدل من النكرة، أو صلة لها على رأي الأخفش، لأنها وصفت أو عطف بيان، ويجوز القطع للرفع أو النصب، وإنما نكر مقاماً محموداً، لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل مقام، وأي مقام يغبطه فيه الأولون والآخرون محمود اتكل عن أوصافه ألسنة الحامدين، ويشرف به على جميع العالمين يسأل فيعطى، ويشفع فيشفع، وليس أحد إلا تحت لوائه، كما أفاده القسطلاني وابن حجر. وأما لفظ والدرجة الرفيعة ولفظ يا أرحم الراحمين، فكلاهما لا أصل لهما من الحديث على ما قاله ابن حجر. (فإذا سمعت الأذان) أي أو الإقامة (وأنت في الصلاة فتمم الصلاة) ولا تجبه فإن الجواب حينئذٍ مكروه (ثم تدارك الجواب بعد السلام على وجهه) أي طريقه وترتيبه، وكذا إن كنت خارج الصلاة ولم تتابع الجواب حتى فرغ المؤذن من الأذان أو الإقامة، فيستحب أن تتدارك متابعة الجواب، ولو لغير عذر إن لم يطل الفصل عرفاً، وضبطه بعضهم بركعتين بأقل ممكن، ولو لم تسمع إلا آخر الأذان أو الإقامة أجبت من الأول، فتجيب في الجميع وتجيب أيضاً في الترجيع، وإن لم تسمعه على ما قاله الونائي  (فإذا أحرم الإمام بالفرض فلا تشتغل إلا بالاقتداء به وصل الفرض كما سيتلى عليك) الكاف بمعنى على أي على الوجه الذي سيذكر ويبين لك (في) فصل (كيفية الصلاة وآدابها) بعد الفصل الذي ذكر كيفية النوم، فالكيفية هي العلة الصورية، فالإضافة من إضافة العلة الصورية لمعلولها والعلة الصورية جزء من الصلاة، فإن كل شيء له علل أربع: علة صورية وعلة مادية وعلة فاعلية وعلة غائية، فالعلة المادية سبب في العلة الصورية، فالعلة الفاعلية في الصلاة المصلي، والمادية الأركان، والغائية كحصول الثواب، فقد وجدت العلل الأربع في الصلاة والعلة الصورية هي القائمة من هذا المركب، كذا أفاده الشيخ عطية الأجهوري (فإذا فرغت) أي من ركعتي الفرض (فقل) بعد الاستغفار ثلاثاً كما رواه مسلم عن ثوبان عتيق رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم اللهم أنت السلام) أي السالم من كل ما لا يليق بجلال الربوبية وكمال الألوهية (ومنك السلام) أي السلامة من كل مكروه (وإليك يعود السلام) أي السلام منا في آخر الصلاة (فحيناً)أي أكرمنا (ربنا بالسلام) أي لأمن مما جنيناه وبالعفو عما اقترفناه (وأدخلنا الجنة) وفي نسخة بدل الجنة دارك وفي الإحياء سقوطهما (دار السلام) أي السلامة من التباغض والآفات، أو لأن الملائكة يقولون لأهلها سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (تباركت) أي تقدست كما قاله العزيزي وفي نسخة بعد ذلك وتعاليت، أي تنزهت وفي الإحياء سقوطه (يا ذا الجلال) أي الشرف والكمال فلا شرف ولا كمال إلا له (والإكرام) فلا مكرمة إلا وهي منه تعالى، ثم يفتح الدعاء عقب الصلاة بقوله (سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب) أي كثير النعم دائم العطاء.
     روى سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح دعاءه بقوله: سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب ثلاثاً (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده) أي بقدرته وتدبيره (الخير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله أهل النعمة والفضل والثناء الحسن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) هذا كما في الإحياء. وقال النووي في الأذكار: روينا في صحيح مسلم عن عبداللهبن الزبير أنه كان يقول دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة والفضل، وله الثناء الحسن لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. (ثم ادع بعد ذلك بالجوامع) أي بجوامع الكلم كما قاله المناوي (الكوامل) أي كوامل الأدعية (وهو ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة) الصديقة (رضي الله عنها فقل اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما عَلِمْتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل ونية واعتقاد، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل ونية واعتقاد) وقوله ونية واعتقاد في الموضعين لم يذكر في الإحياء، ولا في الجامع وقوله وعمل بالواو في الموضعين كما في الإحياء وبأو كما في الجامع (وأسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمدصلى الله عليه وسلم وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمدصلى الله عليه وسلم) قوله من خير بالتنكير موافق للجامع، وأما الذي في الإحياء فبالتعريف، فما مفعول ثان ومن خير بيان إن قرىء بالتنكير أو التعريف، وأما إن قرىء بإضافة خير إلى ما فهو مفعول ثان، ومن إما زائدة أو تبعيضية، وقوله ونبيك موافق للجامع، وفي الإحياء: ورسولك، بدله كما في بعض النسخ لهذا الكتاب وعبارة الجامع، وأعوذ بك من شر ما عاذ به وعبارة الإحياء، وأستعيذك بما استعاذك منه كما في بعض نسخ هذا الكتاب، وأما كلمة منه في الموضع الأول فساقطة في الإحياء والجامع  (اللهم وما قضيت على من أمر فاجعل عاقبته رشداً) أي أصابة للخير كما قاله الرملي، وفي الجامع وهورواية عن ابن ماجه عن عائشة بدل ذلك، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً (ثم ادع بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم) سيدتنا (فاطمة رضي الله عنها فقل يا حي يا قيوم) أي قائم بنفسه ومقيم لغيره (يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث) والمعنى أكشف شدتي (ومن عذابك أستجير لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين) والمعنى قم بأمري ولا تترك إعانتي ولو قدر تحرك العين (وأصلح لي شأني كله) أي اجعل أمري كله صواباً وخيراً، وها مثل ما في الإحياء إلا قوله ولا إلى أحد من خلقك، فهوساقط فيه وقد يوجد في بعض النسخ زيادة على ذلك فلعله من النساخ (ثم قل ما قاله) سيدنا (عيسى على نبينا عليه الصلاة والسلام اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيدك لا بيد غيرك، وأصبحت مرتهناً بعملي فلا فقير أفقر مني إليك ولا غني أغنى منك عني) وهذه الجملة الأخيرة مع قوله إليك ساقطة في الإحياء كما في نسخة (اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي) بفتح الصاد، ومعنى الجملتين يا الله لا تنزل بي بلية تفرح عدوي، ولا مصيبة تحزن الصادق في ودي، وتشمت بضم التاء وسكون الشين وكسر الميم، بمعنى تفرح وتسؤ بفتح التاء وضم السين بمعنى تحزن، فهو متعد بنفسه كما في الصحاح (ولا تجعل مصيبتي في ديني) فإن مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا (ولا تجعل الدنيا أكبر همي) بفتح الهاء أي مرادي (ولا مبلغ علمي) أي ولا تجعل الدنيا محل وصول علمي، بل اجعل علمي واصلاً إليك، وهذه الكلمة ساقطة في الإحياء (ولا تسلط علي بذنبي من لا يرحمني) أي لا تجعل من لا يعطف علي قاهراً علي بسبب ذنبي عندك، وفي بعض النسخ بذنوبي بالجمع وفي الإحياء سقوطه كما في نسخة (ثم ادع بما بدأ) أي ظهر (لك من الدعوات المشهورات) والأولى أن تأتي بسيد الاستغفار، وهو: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت.
     وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "مَنْ قالَ حِينَ يُصْبِح أوْ يُمْسِي: اللَّهُمَّ إِنِّي أصْبَحْتُ أشْهَدُكَ وأشهدُ حملَ عَرْشِكَ وَمَلائكتكَ، وَجَمِيعَ خُلْقِكَ إِنَّكَ أنتَ اللَّه لا إِل?هَ إِلا أنْتَ، وأنَّ محمداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أعْتَقَ الله رُبْعَهُ مِنَ النَّارِ؛ فمن قالَها مَرَّتَينِ أعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قالَها ثلاثاً أعْتَقَ اللَّهُ ثلاثةَ أرباعه، فإنْ كانَ قالها أرْبعاً أعْتَقَهُ اللَّهُ تعالى مِنَ النَّارِ". وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألُكَ عِلْماً نافعاً وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَرِزْقاً طَيِّباً" هكذا في الأذكار للنووي رحمه الله تعالى. وقال الغزالي لبعض تلامذته: واقرأ هذا الدعاء في أوقاتك خصوصاً أعقاب صلواتك: اللهم إني أسألك من النعمة تمامها، ومن العصمة دوامها، ومن الرحمة شمولها، ومن العافية حصولها، ومن العيش أرغده، ومن العمر أسعده، ومن الوقت أطيبه، ومن الإحسان أتمه، ومن الأنعام أعمه، ومن الفضل أعذبه، ومن اللطف نفعه، ومن الرزق أوسعه، اللهم كن لنا يا جبار، ولا تكن علينا، اللهم اختم بالسعادة آجالنا، وحقق بالزيادة أعمالنا، وأقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى مغفرتك ورحمتك مصيرنا ومآلنا، واصبب سجال عفوك عى ذنوبنا، ومن علينا بإصلاح عيوبنا، واجعل التقوى زادنا، وفي دينك اجتهادنا، وعليك توكلنا واعتمادنا وثبتنا على نهج الاستقامة، وأعذنا في الدنيا والآخرة من موجبات الندامة يوم القيامة، اللهم خفف عنا ثقل الأوزار، وارزقنا معيشة الأبرار واكفنا، واصرف عنا شر الأشرار وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا من النار، برحمتك يا عزيز يا غفار يا كريم يا ستار يا حليم يا جبار يا الله يا الله يا الله يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين. (واحفظها) أي الدعوات (مما أوردناه) أي أحضرناه وذكرناه (في كتاب الدعوات من كتاب إحياء علوم الدين) فادع بجميعها إن قدرت عليه أو احفظ منها ما تراه أوفق بحالك، وأرق لقلبك وأخف على لسانك كما قاله الشيخ الغزالي.
     ومن الدعوات المذكورة في الإحياء دعاء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، ومن دعا بذلك إذا أصبح فقد أدى شكر يومه، وهو: اللهم هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك، واختمه لي بمغفرتك ورضوانك، وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي، وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم. ومنها دعاء عتبة الغلام وقد رؤي في المنام فقال: دخلت الجنة بهذه الكلمات اللهم يا هادي المضلين، وراحم المذنبين ومقيل عثرات العاثرين، ارحم عبدك ذا الخطر العظيم والمسلمين كلهم أجمعين، واجعلنا من الأخيار المرزوقين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. (ولتكن أوقاتك بعد الصلاة إلى طلوع الشمس موزعة) أي مقسومة (على أربع وظائف) أي أوراد (وظيفة في الدعوات) فليبدأها بذكر الله كما مر ذكره، ولا يبدأ بالسؤال قال سلمةبن الأكوع: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الدعاء إلا استفتحه بقوله: سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب، وليبدأها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اسأل حاجتك ثم اختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما كذا في الإحياء (ووظيفة في الأذكار والتسبيحات) وهي كلمات ورد في تكرارها فضائل، وستأتي في كلامه (وتكررها في سبحة) بضم السين، وهي خرزات منظومة، وتسمى أيضاً مذكرة أو في يدك (ووظيفة في قراءة القرآن) فإن القرآن جامع لفضل الذكر والفكر، والدعاء إذا كان بتدبير فيستحب لك قراءة جملة من الآيات التي وردت الأخبار بفضلها، وهو أن تقر سورة الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة البقرة من قوله: آمن الرسول وشهد الله، وقل: اللهم مالك الملك الآيتين، وقوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكَمُ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (التوبة:128) إلى آخرها وقوله تعالى: {لَقَدَ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بالحَقِّ} (الفتح:27) إلى آخرها وقوله سبحانه وتعالى {الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} (الإسراء:111) الآية وخمس آيات من أول الحديد وثلاثاً من آخر سورة الحشر هكذا في الإحياء (ووظيفة في التفكر) فمهما تيسر لك الفكر فهو أشرف العبادات إذ فيه معنى الذكر لله تعالى وزيادة أمرين: أحدهما زيادة المعرفة إذ الفكر مفتاح المعرفة والكشف، والثاني زيادة المحبة إذ لا يحب القلب إلا من اعتقد تعظيمه، ولا تنكشف عظمة الله تعالى إلا بمعرفة صفاته، ومعرفة قدرته وعجائب أفعاله، فيحصل من الفكر المعرفة ومن المعرفة التعظيم، ومن التعظيم المحبة (فتفكر) بضم التاء وفتحها وسكون الفاء وكسر الكاف مضارع أفكر بالهمزة، وفكر من باب ضرب كما في الصحاح والمصباح (في) ما ينفعك في المعاملة مع الله بأن تحاسب نفسك فيما سبق من (ذنوبك وخطاياك وتقصيرك) أي توانيك (في عبادة مولاك) وتفكر فيما ينفعك في علم المكاشفة (و) ذلك بأن تفكر مرة في (تعرضك) أي إقبالك (لعقابه الأليم وسخطه العظيم) أو في نعم الله تعالى وتواتر آلائه الظاهرة والباطنة (وترتب) بصيغة المضارع المفيد للخطاب معطوف على تفكر (بتدبيرك) أي فكرك (أورادك في جميع يومك لتتدارك به ما فرط) أي سبق (من تقصيرك) ولتصلحه (وتحترز من التعرض لسخط الله الأليم في يومك) وتزيد معرفتك بقدرة الإله ويزيد خوفك منه، ولتزيد معرفتك بالآلاء ويكثر شكرك عليها، فقوله: لتتدارك، علة لقوله: تفكر في ذنوبك، وقوله وتحترز، علة لقوله: تعرضك. (وتنوي الخير) معطوف أيضاً على تفكر، أي تحضر في قلبك نية أداء الخير في أعمالك لنفسك، وفي معاملتك (لجميع المسلمين) فنية المرء خير من عمله (وتعزم على أن لا تشتغل في جميع نهارك إلا بطاعة الله تعالى وتقصد) وفي بعض النسخ وتفصل (في قلبك الطاعات التي تقدر عليها وتختار) أي بخلدك (أفضلها) أي الطاعات (وتتأمل) أي تترقب (تهيئة أسبابها لتشتغل بها ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل وحلول الموت القاطع للأمل) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْر هَادِم اللَّذاتِ" معناه نغصوا بذكره اللذات حتى ينقطع ركونكم إليها فتقبلوا على الله تعالى. وقالت عائشة: يا رسول الله هل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال: نعم من يذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة. (وخروج الأمر عن الاختيار) وهو خلاف الاضطرار، وهذا معطوف على قرب الأجل (وحصول الحسرة) بالحاء المهملة أي الحزن (والندامة) في الآخرة (بطول الاعتذار) أي الغفلة عن الموت في الدنيا فإنها تدعو إلى الانهماك في شهوات الدنيا (وليكن من تسبيحاتك وأذكارك عشر كلمات إحداهن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. الثانية: لا إله إلا الله الملك الحق المبين) فمعنى الملك ذو الملك، والمراد به القدرة على الإيجاد، ومعنى المبين المظهر للصراط المستقيم لمن شاء هدايته كما قاله العزيزي (الثالثة: لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار) فمعنى الواحد الذي لا ينقسم، ولا مشابهة بينه وبين غيره، ومعنى القهار هو الذي لا موجود إلا وهو مقهور تحت قدرته، ومعنى العزيز الغالب، ومعنى الغفار هو الذي يستر القبائح والذنوب بإسبال الستر عليها في الدنيا، وترك المؤاخذة بالعفو عنها في العقبى، ويصون العبد من أوزارها كذا في شرح الجامع. (الرابعة: سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وهذه الكلمة إلى قوله: والله أكبر، تسمى الباقيات الصالحات، وقيل هي إلى قوله: إلا بالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ أَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهَ وَالحَمْدُ للهِ وَلاَ إِل?هَ إِلاَّ اللَّهُ واللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ". (الخامسة سبوح قدوس) وهما اسمان من أسماء الله تعالى قال ثعلب: كل اسم جاء على فعول، فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان وقرأهما سيبويه بالفتح، والفرق بين التسبيح والتقديس أن التسبيح يكون بالطاعات والعبادات، والتقديس يكون بالمعارف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، أي فيكون التقديس التفكر في ذلك (رب الملائكة والروح) وفي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن السني عن الزبير ما من صباح يصبح العباد فيه إلا وصارخ يصرخ: أيها الخلائق سبحوا الملك القدوس رب الملائكة والروح، قال الشربيني: الروح هو جبريل عليه السلام. وقال: الروح ملك رأسه تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وله ألف رأس كل رأس أعظم من الدنيا، وفي كل رأس ألف وجه، وفي كل وجه ألف فم، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة الآخر، فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرت ملائكة السموات السبع سُجَّداً مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه اهـ. (السادسة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) ومعنى العظيم البالغ في أقصى مراتب العظمة، وهو الذي لا يتصوره عقل، ولا يحيط بكنهه بصيرة. وقال جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قَالَ سُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الجَنَّةِ". (السابعة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة) أي المغفرة والإنقاذ من المعاصي، وفي بعض النسخ بعد ذلك زيادة والمغفرة، وفي الإحياء عدمها (الثامنة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا راد لما قضيت) هذه الأخيرة ساقطة في الإحياء (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، وإنما ينفعه العمل بطاعتك، ومعنى منك عندك (التاسعة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم) (العاشرة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) وهذه الكلمات مخالفة لما في الإحياء من الترتيب وبعض الكلمات، وفيه وهذه الكلمات عشرة؛ الأولى: قوله لا إله إلا الله إلى آخرها بلا مخالفة. الثانية: قوله سبحانه الله والحمد لله إلى آخرها، لكن بإسقاط العلي العظيم الثالثة: قوله سبوح قدوس رب الملائكة والروح بلا مخالفة. الرابعة: قوله سبحان الله العظيم وبحمده. الخامسة: قوله أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأسأله التوبة، السادسة: قوله اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، السابعة: قوله لا إله إلا الله الملك الحق المبين. الثامنة: قوله بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم. التاسعة: قوله اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم. العاشرة: قوله أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون.
     ثم قال المصنف: وإن قرأت المسبعات العشرة التي أهداها الخضر عليه السلام إلى إبراهيم التيمي، فقد استكمل لك الفضل، وجمع لك ذلك فضيلة جملة الأدعية المذكورة، وهي أن تقرأ قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب سورة الحمد، وقل أعوذ برب الناس، وقل أعوذ برب الفلق، وقل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون، وآية الكرسي كل واحدة سبع مرات، وتقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر سبعاً، وتصلى على النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً، وتستغفر لنفسك ولوالديك والمؤمنين والمؤمنات سبعاً، وتقول: اللهم افعل بي وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل، ولا تفعل بنا يا مولانا ما نحن له أهل إنك غفور حليم جواد كريم رؤوف رحيم سبع مرات، ولا تدع ذلك غدوة وعشية (تكرر) بصيغة المضارع الذي للخطاب (كل واحدة من هذه الكلمات إما مائة مرة أو سبعين مرة أو عشر مرات وهو) أي العشرة (أقله) أي التكرير (ليكون المجموع مائة) مرة فهو أفضل من أن تكرر واحدة مائة مرة، لأن لكل واحدة من هؤلاء الكلمات فضلاً بانفراده، وللقلب بكل واحدة نوع تنبه وتلذذ، وللنفس في الانتقال من كلمة إلى كلمة استراحة، وأمن من الملل، كذا قال المصنف في الإحياء (ولازم هذه الأوراد) وفي بعض النسخ هذه الأذكار وقال في الإحياء وأقل ما ينبغي أن تكرر كل واحدة من هذه الكلمات ثلاثاً أو سبعاً وأكثره مائة أو سبعون وأوسطه عشر، وفضل الأكثر أكثر، والأوسط أن تكررها عشر مرات، فهو أجد بأن تداوم عليه، وخير الأمور أدومها، وإن قل وكل وظيفة لا يمكن المواظبة على كثيرها، فقليلها مع المداومة أفضل وأشد تأثيراً في القلب من كثيرها مع الفترة (ولا تتكلم قبل طلوع الشمس ففي الخبرأن ذلك) أي عدم الكلام قبل طلوع الشمس (أفضل من إعتاق ثمان رقاب) ثمان بحذف الياء (من ولد إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام) أي لو فرض أن ولد إسماعيل عبد، وهو لم يكن كذلك، بل هو من أفضل الناس، وإنما دل هذا الحديث على زيادة فضيلة صاحب هذا العمل (أعني) باسم الإشارة (الاشتغال بالذكر) أي بأي ذكر كان لا بخصوص هذه الكلمات (إلى طلوع الشمس من غير أن يتخلله) أي الذكر (كلام) فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأنْ أَقْعُدَ في مَجْلِسي أذْكُرُ اللَّهَ تعالى فيهِ مِنْ صَلاةِ الغَدَاةِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ". وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ تعالى قالَ: يا ابْنَ آدَمَ اذْكُرْني بَعْدَ صَلاةِ الفَجْرَ وفي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كانَتْ كأجْرِ حُجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تامَّةٍ تامَّةٍ تامَّةٍ" كذا في الأذكار.

آداب ما بين الشمس إلى الزوال
     (فإذا طلعت الشمس وارتفعت قدر رمح) أو قدر نصفه كما في الإحياء (فصل ركعتين) إما بنية صلاة الإشراق بناء على القول بأنها غير صلاة الضحى، أو بنية الضحى بناء على أنها هي، وهو المعتمد فقد روى علي رضي الله عنه أنهصلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات في وقتين إذا أشرقت الشمس، وارتفعت قام صلى ركعتين، وإذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء من جانب الشرق صلى أربعاً (وذلك) أي فعل ركعتين (عند زوال وقت الكراهة) أي كراهة التحريم (للصلاة فإنها) أي الصلاة (مكروهة) مع صحتها (من بعد فريضة الصبح إلى ارتفاع الشمس) وهو ظهور تمام نورها (فإذا أضحى) أي علا (النهار ومضى منه قريب من ربعه فصل صلاة الضحى أربعاً أو ستاً أو ثمانياً) وهي أفضلها وأكثرها على المعتمد (مثنى مثنى) أي سلم من كل ركعتين وهو أفضل، وذكر السيوطي أن الأفضل أن يقرأ الإنسان في الركعة الأولى منها بعد الفاتحة سورة والشمس بتمامها، وفي الثانية الفاتحة وسورة والضحى، وتبعه على ذلك ابن حجر، لكن الرملي اعتمد أنه يقرأ في الركعة الأولى الكافرون، وفي الثانية الإخلاص ويفعل ذلك في كل ركعتين منها (فقد نقلت هذه الأعداد كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كما قالت أم هانىء: صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم سُبْحَةَ الضُّحَى ثمانَ ركعاتٍ يُسَلِّم مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، رواه أبو داود (والصلاة خير كلها فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل) كما في الحديث الذي رواه الطبراني عن أبي هريرة: الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر، أي الصلاة أفضل ما وضعه الله، أي ما شرعه لعباده من العبادة، فمن استطاع أن يكثر فعلها، فليكثره فإنها العبادات البدنية بعد الإيمان (فليس بين طلوع الشمس والزوال راتبة من الصلاة إلا هذه) أي صلاة الضحى، وفي بعض النسخ، فليس بين الطلوع والزوال راتبة إلا هذه الصلوات (فما فضل عنها من أوقاتك فلك فيه أربع حالات الحالة الأولى وهي الأفضل أن تصرفه) أي فاضل الأوقات في نفع الناس بعلمك في فتوى وتدريس أو تصنيف أو مطالعة للكتب، فإن أمكنك استغراق الأوقات في ذلك وهو أفضل ما تشتغل به بعد المكتوبات ورواتبها، لأن في ذلك منفعة الخلق وهدايتهم إلى طريق الآخرة، ورب مسألة واحدة يتعلمها المتعلم، فيصلح بها عبادة عمره، ولو لم يتعلمها لكان سعيه ضائعاً هذا إن كنت عالماً، وأما إن كنت متعلماً فالأفضل أن تصرف أوقاتك (في طلب العلم النافع في الدين) حيث يشتغل العالم بالإفادة، وفي نسخ: حيث يشتغل العالم بالتصنيف، وكذا لو لم تكن متعلماً بأن تتعلق بأن تحصل لتصير عالماً، بل لو كنت من العوام، فحضورك مجالس الوعظ، والعلم أفضل من اشتغالك بالأوراد والنوافل، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن حضور مجلس ذكر أفضل من صلاة ألف ركعة، وشهود ألف جنازة وعيادة ألف مريض (دون الفضول) أي الذي لا ينفع (الذي أكب) أي لازم (الناس عليه وسموه علماً) وذلك كعلم السحر والنجوم (والعلم النافع) المقدم على العبادة (هو ما يزيد في خوفك من الله تعالى ويزيد في بصيرتك) أي علمك (بعيون نفسك ويزيد في معرفتك بعبادة ربك ويقلل من رغبتك في الدنيا ويزيد في رغبتك في الآخرة ويفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها) ويعينك على سلوك طريق الآخرة إذا تعلمت ذلك العلم على قصد الاستعانة به على السلوك (ويطلعك) أي يعلمك (على مكايد الشيطان) أي مكره (وغروره) أي خديعته (وكيفية تلبيسه) أي تدليسه وخيانته (على علماء السوء) وهم الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه (حتى عرضهم) أي وجههم (لمقت الله تعالى) أي بغضه (وسخطه) أي غضبه (حيث أكلوا) أي أخذوا (الدنيا بالدين) فقوله: حيث أكلوا إلى آخره، تعليل لتسميتهم علماء السوء، أي وإنما سموا علماء السوء لأنهم أكلوا (واتخذوا) أي جعلوا (العلم ذريعة ووسيلة إلى أخذ أموال السلاطين وأكل أموال الأوقاف) أي التي وقفت على العلماء (واليتامى والمساكين وصرف) أي أمال الشيطان بالأفراد معطوف على عرضهم.
وفي بعض النسخ وصرفوا بالجمع عطفاً على أكلوا (همتهم) بكسر الهاء أي عزمهم القوي (طول نهارهم إلى طلب الجاه) أي الرتبة فهو مطلوب من الوجه (والمنزلة) أي العظم والارتفاع (في قلوب الخلق واضطرهم) أي ألجأهم وأكرههم (ذلك) أي صرف الهمة إلى ما ذكر، والمناسب أن يقول فاضطرهم بالفاء، ليكون تفريعاً على قوله وصرف همتهم (إلى المراآة) أي إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها ليحمدوهم (والمماراة) أي المجادلة (والمناقشة) بالقاف والشين المعجمة، أي الاستقصاء (في الكلام) وفي بعض النسخ، والمنافسة بالفاء والسين المهملة مع إسقاط قوله في الكلام، فمعناها الرغبة في العلم، والعمل على وجه المماراة أي المعارضة (والمباهاة) أي التعاظم والتكبر (وهذا الفن) أي النوع الذي هو (من العلم النافع قد جمعناه في كتاب إحياء علوم الدين) وأذكر تلخيص ما فيه، وهوأن العلم النافع قسمان: قسم محمود قليله وكثيره، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل، وقسم يحمد منه مقدار الكفاية، ولا يحمد الفاضل عليه فالأول هو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه، وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا. والثاني ينقسم إلى أربعة أقسام: أصول وفروع ومقدمات ومتممات. فالأصول هي أربعة: كتاب الله تعالى وسنة رسوله وإجماع الأمة وآثار الصحابة، فهذان أصلان من حيث إنهما يدلان على السنة. والفروع على قسمين: أحدهما ما يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه. وثانيهما ما يتعلق بمصالح الآخرة، وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة، وما هو مرضي عند الله تعالى، وما هو مكروه والمقدمات هي التي تجري مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو، فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمدصلى الله عليه وسلم، وليست اللغة والنحو من العلوم الشريفة في أنفسهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب، وكل شريعة بلغة، فيصير تعلم تلك اللغة آلة، ومن الآلات علم كتاب الخط والمتممات هي في علم القرآن، فإنه ينقسم إلى ثلاثة أنواع: قسم يتعلق باللفظ كتعلم القرآن ومخارج الحروف. وقسم يتعلق بالمعنى كالتفسير، فإن اعتماده على النقل إذ اللغة بمجردها لا تستقل به. وقسم يتعلق بأحكام القرآن، كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص، والنص والظاهر، وكيفية استعمال البعض منه مع البعض هو العلم الذي يسمى أصول الفقه، وأما المتممات في الآثار والأخبار، فالعلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم، وأسماء الصحابة وصفاتهم والعلم بالعدالة في الرواة، والعلم بأحوالهم ليميز الضعيف عن القوي، والعلم بأعمارهم ليميز المرسل عن المسند، فهذه هي العلوم الشرعية، وكلها من فروض الكفايات (فإن كنت من أهله) أي العلم النافع المذكور كله (فحصله) أي اطلبه بتعلمه من أهله (واعمل به) أي بذلك العلم (ثم علمه) للناس (وادع إليه) أي العلم المذكور (فمن علم ذلك) أي العلم النافع (وعمل به ثم علمه ودعا إليه فذلك) أي الشخص المتصف بذلك المذكور (يدعى) أي يسمى (عظيماً في ملكوت السموات بشهادة عيسى عليه السلام) أي لأن سيدنا عيسى قال: من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السموات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَلَّمَ باباً مِنَ العِلْمِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أُعْطِيَ ثَوَابَ سَبْعينَ صَدِّيقاً" (فإذا فرغت من ذلك) أي العلم النافع (كله وفرغت من إصلاح نفسك ظاهراً وباطناً، وفضل شيء من أوقاتك، فلا بأس أن تشتغل بعلم المذهب في الفقه لتعرف به الفروع النادرة) أي الخارجة عن فرض العين (في العبادات وطريق التوسط) أي العدل (بين الخلق في الخصومات عند انكبابهم) أي إقبالهم (على الشهوات) أي جميع اشتياق النفس (فذلك) أي الاشتغال بعلم المذهب (أيضاً بعد الفراغ من هذه المهمات) أي الأمور اللازمة (من جملة فروض الكفايات) ومن فروض الكفايات تعلم الطب.
     وقال الزيادي: وطلب العلم الشرعي على ثلاثة أقسام: فرض عين، وهو تعلم ما لا بد منه. وفرض كفاية وهو تعلم ما يصل به إلى درجة الإفتاء، وسنة وهو ما زاد على ذلك اهـ.
     وقال الغزالي: فكن أحد رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك،    وإياك أن تشغتل بما يصلح غيرك قبل صلاح نفسك، فإن كنت المشغول بنفسك فلا تشتغل إلا بالعلم الذي هو فرض عليك بحسب ما يقتضيه حالك، وما يتعلق منه بالأعمال الظاهرة من تعلم الصلاة والطهارة والصوم، وإنما الأهم علم صفات القلب، وما يحمد منها وما يذم إذ لا ينفك بشر عن الصفات المذمومة، مثل الحرص والحسد والرياء والكبر والعجب وأخواتها (فإن دعتك نفسك) أي الأمارة اللوامة (إلى ترك ما ذكرناه من الأوراد والأذكار استثقالاً لذلك) أي معتقداً ثقل ذلك المذكور (فاعلم أن الشيطان اللعين) أي البعيد عن الخير (قد دس) أي أخفى (في قلبك الداء الدفين وهو حب المال والجاه) أي القدر (فإياك) أي احذر تلافيك (أن تغتر به) أي تظن الأمن من الشيطان فلم تتحفظ منه (فتكون ضحكة) بضم الضاد وفتح الحاء، أي كثير الضحك (له) أي الشيطان (فيهلكك ويسخر) أي يهزأ (منك) وفي بعض النسخ بك، فإن السخر يتعدى بمن والباء (فإن جربت نفسك مدة) أي زماناً طويلاً (في الأوراد والعبادات) أي النافلة (فكانت لا تستثقلها كسلاً) بفتح السين، أي تثاقلاً فهو مفعول مطلق (عنها لكن ظهرت رغبتك في تحصيل العلم النافع ولم ترد به إلاَّ وجه الله تعالى والدار الآخرة فذلك) أي تحصيل العلم (أفضل من نوافل العبادات مهما صحت النية) بأن لا تقصد في تعلم العلم إلا القيام بإحياء الشريعة ونشرها، فهذا العلم مع هذه النية أفضل من صيام النهار. وقيام الليل، ومن الخلوة والرياضة ومن كل شيء غيره، ولو اقتصر صاحبه على الفرائض مع هذه النية الصالحة، كان أفضل من غيره بأضعاف مضاعفة، لأن النفع المتعدي أعظم من النفع القاصر (ولكن الشأن) أي الأمر المعتد به (في صحة النية فإن لم تصح) أي النية (فهو) أي تحصيل العلم (معدن) أي موضع (غرور الجهال) والغرور بفتح الغين معناه الدنيا أو الشيطان وبضمها معناه الأباطيل كما في القاموس (ومزلة أقدام الرجال) أي العلماء (الحالة الثانية أن لا تقدر على تحصيل العلم النافع في الدين) في التدريس للطلبة والاستفادة من العالم (ولكن تشتغل بوظائف العبادات من الذكر والتسبيح والقراءة والصلاة فذلك) أي الاشتغال بالعبادات (من درجات العابدين) المتجردين للعبادة (وسير الصالحين) أي طريقتهم فالسير بكسر السين وفتح الياء جمع سيرة بسكون الياء، بمعنى الطريقة والحالة والهيئة (وتكون أيضاً بذلك) أي الاشتغال (من الفائزين) فقد كان في الصحابة من ورده في اليوم اثنا عشر ألف تسبيحة وكان فيهم من ورده ثلاثون ألفاً، وكان فيهم من ورده ثلاثمائة ركعة إلى ستمائة، وإلى ألف ركعة، وكان بعضهم أكثر ورده القرآن، وكان يختمه الواحد منهم في اليوم مرة، وكان بعضهم يقضي اليوم أو الليلة في التفكر في آية واحدة يرددها، وكان كرزبن وبرة مقيماً بمكة يطوف في كل يوم سبعين أسبوعاً وفي كل ليلة سبعين أسبوعاً، وكان مع ذلك يختم القرآن في اليوم والليلة مرتين.
     واعلم أن قراءة القرآن في الصلاة قائماً مع التدبر يجمع الجميع، ولكن ربما تعسر المواظبة عليه، فالأفضل يختلف باختلاف حال الشخص، ومقصود الأوراد تطهير القلب بذكر الله تعالى وإيناسه به، فلينظر المريد إلى قلبه فما يراه أشد تأثيراً فيه فليواظب عليه، فإذا أحس بملالة منه فلينتقل إلى غيره، لأن الملال هو الغالب على الطبع هكذا في الإحياء (الحالة الثالثة أن تشغتل بما يصل منه خير إلى المسلمين ويدخل به سرور على قلوب المؤمنين) من قضاء حاجة لهم ومعاونة معهم على بر وتقوى. وقد ورد في الخبر أن أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمنين (أو) تشتغل بما (يتيسر به الأعمال الصالحة للصالحين كخدمة الفقهاء والصوفية وأهل الدين والتردد في أشغالهم) جمع شغل بضم الشين والغين وبإسكان الغين وبه مع فتح الشين وبفتحتن ففيه أربع لغات (والسعي) أي التصرف (في إطعام الفقراء والمساكين والتردد مثلاً على المرضى) جمع مريض (بالعيادة) أي الزيارة (وعلى الجنائز بالتشييع) أي الإتباع إلى المقابر (فكل ذلك أفضل من النوافل فإن هذه عبادات) الفاء للتعليل كما في نسخة (وفيها رفق) أي نفع (للمسلمين) كما قال الجيلاني: ما وصلت إلى الله تعالى بقيام ليل، ولا صيام نهار، ولكن وصلت إلى الله تعالى بالكرم والتواضع وسلامة الصدر (الحالة الرابعة أن لا تقوى) أي لا تقدر (على ذلك) أي على الحالة الثالثة، أو على المذكور من الحالات الثلاث المتقدمة (فاشتغل بحاجاتك اكتساباً على نفسك أو عيالك) أي أهل بيتك ومن تمونه، لأنه ليس لك أن تضيع العيال، وتستغرق الأوقات في العبادات، وكان وردك حضور السوق والاشتغال بالكسب (وقد سلم المسلمون منك) الواو للحال (وأمنوا من لسانك ويدك) وهذا عطف تفسير على ما قبله (وسلم لك دينك إذ لم ترتكب) أي لم تأت (معصية) في حال اكتسابك وفي غيره (فتنال بذلك) أي الاكتساب (درجة أصحاب اليمين) وهم المقتصدون في العبادات (إن لم تكن من أهل الترقي إلى مقامات السابقين) وهم المسارعون في العبادة مع ضم التعليم والتعلم (فهذا) أي الكسب بتلك الصفة (أقل الدرجات في مقامات الدين) أما إذا داومت على الكسب، ولم تنس ذكر الله تعالى في صناعتك، بأن تواظب على التسبيحات والأذكار وقراءة القرآن، وتتصدق بما فضل عن حاجتك، فذلك أفضل من سائر الأذكار التي ذكرت هنا، لأن العبادة المتعدية فائدتها أنفع من اللازمة، والكسب على هذه النية عبادة لك في نفسك تقربك إلى الله تعالى. ثم يحصل فائدة الغير، وينجذب إليك بركات دعوات المسلمين ويتضاعف به الأجر (وما بعد هذا) أي المذكور من الحالة الرابعة (فهو من مراتع الشياطين) أي من محال تنعمهم واتساعهم (وذلك) أي ما بعد المرتبة الرابعة (بأن تشتغل والعياذ بالله بما يهدم دينك) أي من إتيان الذنوب في حق الله تعالى (أو تؤذي عبداً من عباد الله تعالى)بقول أو فعل (فهذه رتبة الهالكين فإياك) أي احذر (أن تكون في هذه الطبقة) أي الحالة والمرتبة. وقد قيل: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغتلك بالباطل:
     (واعلم أن العبد في حق دينه على ثلاث درجات) أي طبقات من المراتب (إما سالم) من الإثم (وهو المقتصر على أداء الفرائض) أي المكتفي به (وترك المعاصي أو رابح) للآخرة (وهو المتطوع) أي المتبرع (بالقربات) وهي اسم لما يتقرب بها إلى الله تعالى (والنوافل أو خاسر) أي هالك آثم (وهو المقصر) أي المتواني (عن اللوزام) أي في الواجبات، فعن بمعنى في قال الله تعالى فمنهم ظالم لنفسه، أي في التقصير بالعمل، ومنهم مقتصد أي يعمل في أغلب الأوقات، ومنهم سابق بالخيرات، وهو من يضم إلى العمل التعليم والإرشاد إلى العمل، وقال أبو بكر الوراق: أحوال العبد ثلاثة: معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة، فإذا عصى دخل في حياز الظالمين، فإذا تاب دخل في جملة المقتصدين، فإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في أعداد السابقين (فإن لم تقدر أن تكون رابحاً) أي بالنوافل (فاجتهد أن تكون سالماً) بأدائك الواجبات واجتنابك للمخالفات (وإياك) أي احذر (ثم إياك) توكيد للأول (أن تكون خاسراً) بعدم الاعتناء في الفرائض، وإن كان العبد يدخل الجنة بفضل الله، ولكن بعد أن يستعد بطاعته، لأن رحمة الله قريب من المحسنين، كما حكي أن رجلاً في بني إسرائيل عبدالله تعالى سبعين سنة، أرسل الله إليه ملكاً يخبره بأنه مع تلك العبادة لا يليق به الجنة، فلما بلغه قال العابد: نحن خلقنا للعبادة، فينبغي لنا أن نعبده فلما رجع الملك قال: إلهي أنت تعلم بما قال، فقال الله تعالى: إذ هو لم يعرض عن عبادتنا، فنحن مع الكرم لا نعرف عنه اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له
      (والعبد في حق سائر العباد له) أي العبد (ثلاث درجات) أي مراتب (الأولى أن ينزل) أي العبد أي يقام (في حقهم) أي سائر العباد (منزلة) أي موضع (الكرام) أي على الله تعالى (البررة) أي الصادقين المطيعين وهو جمع بار (من الملائكة وهو) أي العبد المنزل منزلة الملائكة (أن يسعى) أي يعمل (في أغراضهم) أي مقاصدهم (رفقاً) أي نفعاً وإعانة (بهم وإدخالاً للسرور على قلوبهم) كما روي في الحديث ما عبدالله بشيء أفضل من جبر الخاطر (الثانية أن ينزل) أي العبد (في حقهم منزلة البهائم والجمادات فلا ينالهم خيره) أي العبد فخير فاعل، وفي نسخة فلا ينيلهم وعلى هذه النسخة فخيره مفعول ثان (ولكن يكف) أي العبد (عنهم شره) أي لا يفعل ما يؤذيهم بقول وفعل (الثالثة أن ينزل) أي العبد (في حقهم منزلة العقارب والحيات) أي الأفاعي (والسباع الضاريات) أي المجترئات، ويقع السبع على كل ماله ناب يعدوبه، ويفترس كالذئب والفهد والنمر (لا يرجى خيره ويتقى شره فإن لم تقدر) بكسر الدال وضمها كما في المصباح وفتحها في لغة قليلة في الصحاح (على أن تلتحق) أي تتشبه (بأفق الملائكة) أي بكرامهم وفواضلهم (فاحذر أن تنزل) أي تحط (عن درجة) العبد المتوسط وهي مرتبة (البهائم والجمادات إلى مراتب) العباد السافلين وهي مراتب (العقارب والحيات والسباع الضاريات) أي العادية (فإن رضيت لنفسك النزول من أعلى عليين) وهي درجة الملائكة إلى درجة المتوسطين (فلا ترض لها) أي لنفسك (بالهوى) بضم الهاء وفتحها مع كسر الواو وتشديد الياء أي السقوط (إلى أسفل سافلين) وهي درجة الحيوانات الفواسق (فلعلك تنجو كفافاً) بفتح الكاف، أي مقدار حاجتك من غير نقص، ولا زيادة كما بين المصنف معنى الكفاف بقوله: (لا لك ولا عليك) أي لا ينفعك أحد كما لا تنفعه ولا يضرك أحد، كما لا تضره (فعليك في بياض) أي أوقات (نهارك أن لا تشتغل إلا بما ينفعك في معادك) أي مرجعك، وهو الآخرة (أو معاشك) أي مكتسبك الذي تعيش بسببه (الذي لا تستغني عن الاستعانة به) أي المعاش (على معادك) فإن كنت تاجراً، فينبغي أن تتجر بصدق وأمانة، وإن كنت صاحب صناعة فبنصح وشفقة، ولا تنس ذكر الله تعالى في جميع أشغالك، واقتصر من الكسب على قدر حاجتك ليومك مهما قدرت على أن تكتسب في كل يوم لقوتك، فإذا حصلت كفاية يومك، فلترجع إلى بيت ربك، ولتتزود لآخرتك، فإن الحاجة إلى زاد الآخرة أشد، والتمتع به أدوم، فالاشتغال بكسبه أهم من طلب الزيادة على حاجة الوقت، فقد قيل: لا يوجد المؤمن إلا في ثلاث مواطن مسجد يعمره أو بيت يستره أو حاجة لا بد منها (فإن عجزت عن القيام بحق دينك مع مخالطة الناس وكنت لا تسلم) من المعاصي الأربعة التي يتعرض الإنسان لها غالباً بالمخالطة، وتسلم منها بالخلوة وهي الغيبة والرياء والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا (فالعزلة أولى) أي أحق لك (فعليك) أي الزم (بها) أي العزلة (ففيها) أي لأن في العزلة (النجاة) أي الخلاص مما مر ومن الفتن والخصومات، ومن شر الناس، ومن مشاهدة الثقلاء (والسلامة) من طمع الناس فيك ومن طمعك في الناس، فإن انقطاع طمع الناس عنك فيه فوائد، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، فاشتغال المرء بإصلاح نفسه أولى، وإن انقطاع طمعك عنهم فيه فائدة جزيلة، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا وزينتها تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، ومهما اعتزل لم يشاهد، وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع (فإن كانت الوساوس) أي أحاديث النفس حال كونك (في العزلة تجاذبك) أي تنازعك (إلى ما لا يرضي الله تعالى ولم تقدر على قمعها) أي قهرها وإذلالها (بوظائف العبادات فعليك) أي الزم وتمسك (بالنوم فهو) أي النوم (أحسن أحوالك وأحوالنا إذا عجزنا عن الغنيمة) هو ما نيل من أهل الشرك عنوة (رضينا بالسلامة) من الهلاك (في الهزيمة) أي الغلبة، والمعنى إذا لم تقدر على إتيان الأعمال الصالحة، فلا تأت الأعمال الفاسدة (فأخس) بكسر الخاء المعجمة وتشديد السين (بحال من سلامة دينه في تعطيل حياته) أي من العبادات، وقوله أخس فعل تعجب ماضٍ ومجيئه على صورة الأمر، وقوله: بحال، فاعل، والباء زائدة لتحسين اللفظ، لأن مجيء المرفوع بعد صورة الأمر قبيح، ويدل على ذلك ما في بعض النسخ، فما أخس حال من سلامة دينه في تعطيل حياته، أي خسة حال من ذكر أمر يتعجب منه، وعلى هذه النسخة فقوله: حال، مفعول، وحمل شيخنا يوسف السنبلاويني على أن قوله في النسخة الأولى: فأخس، فعل أمر، فكان قوله: بحال مفعول له، فالباء للملابسة، والمعنى ارض بالأمر الخسيس، أي الحقير متلبساً بحال من ذكر (إذ النوم أخو الموت وهو) أي النوم (تعطيل الحياة والتحاق بالجمادات) وذكر أبو طالب المكي خلافاً في اليقظة المجردة عن سائر العبادات من الذكر وغيره، والنوم الذي ليس للتقوى على طاعة الله تعالى، وليس لأجل ترك معصية فقيل: اليقظة أفضل من ذلك النوم، لأنه نقص.  وقيل: النوم أولى، لأنه قد يري فيه الله تعالى أو النبي أو الصالحين، وأما النوم الذي على قصد طلب السلامة، ونية قيام الليل فهو قربة.
آداب الاستعداد
     أي التهيؤ (لسائر الصلوات ينبغي) أي يطلب (أن تستعد لصلاة الظهر قبل الزوال فتقدم القيلولة) أي النوم في نصف النهار، وهي سنة في غير يوم الجمعة (إن كان لك قيام في الليل) أي صلاة التهجد وهي صلاة التطوع في الليل بعد النوم، ولا حد لعدد ركعاته لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "الصَّلاةُ خَيْرُ مَوْضوع استَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ". رواه ابن حبان والحاكم، أي الصلاة أفضل شيء موضوع، أي مشروع من المندوبات (أو سهر) بفتح الهاء أي أرق (في الخير) من الذكر ومطالعة الكتب بحيث لو لم تنم لم تشتغل بخير (فإن فيها) أي القيلولة (معونة على قيام الليل كما أن في السحور معونة على صيام النهار) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسْتَعِينُوا بِالقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَبالسّحُورِ على صِيامِ النَّهَارِ، وبالتَّمْرِ والزَّبيبِ عَلَى بَرْدِ الشِّتَاءِ" رواه أبو داود. (والقيلولة من غير قيام بالليل كالسحور) وفي بعض النسخ كالتسحر (من غير صيام بالنهار فإذا قلت) بكسر القاف أي نمت في وقت الظهيرة (فاجتهد أن تستيقظ) أي تنتبه (قبل الزوال) بقدر الاستعداد للصلاة بما ذكره المصنف بقوله (وتتوضأ وتحضر المسجد) أي قبل دخول وقت الصلاة، فإن ذلك من فضائل الأعمال، وإن لم تنم ولم تشتغل بالكسب، واشتغلت بالصلاة والذكر، فهو أفضل أوقات النهار، لأنه وقت غفلة الناس عن الله تعالى، واشتغالهم بهموم الدنيا كذا في الإحياء (وتصلي تحية المسجد وتنتظر المؤذن فتجيبه) كما تقدم بيان ذلك كله (ثم تقوم) إلى إحياء ما بين الأذان والإقامة (فتصلي أربع ركعات عقب الزوال) بتسليمة واحدة ومذهب الشافعي أنها مثنى مثنى كسائر النوافل، وهو الذي صح فيه الأخبار كذا في الإحياء (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطولهن) أي هذه الركعات (ويقول هذا) أي وقت الزوال (وقت تفتح فيه أبواب السماء فأحب أن يرفع لي فيه) أي في هذا الوقت (عمل صالح) كما رواه أبو أيوب الأنصاري. (وهذه الأربع قبل الظهر سنة مؤكدة) أي على قول، والراجح أن الركعتين قبل الظهر آكد من جملة الأربعة كما في الإحياء وهذا هو المعتمد (ففي الخبر) الوارد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن من صلاهن) أي أربع ركعات بعد زوال الشمس (فأحسن ركوعهن وسجودهن) أي وقراءتهن (صلى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له إلى الليل) وفي الحديث عند الخطيب البغدادي عن أنسٍ: "مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أرْبَعاً، غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُ يَوْمِهِ ذ?لِكَ"، وفيه عن الطبراني عن رجل أنصاري "مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أرْبعاً كانَ كَعدلِ رَقَبَةٍ مِنْ بَني إسْمَاعِيلَ" أي كان ثواب ذلك مثل ثواب عتق نسمة من بني إسماعيلبن إبراهيم الخليل عليهما السلام (ثم صل الفرض مع الإمام) بجماعة (ثم صل بعد الفرض ركعتين فهما من الرواتب) المؤكدات (الثابتة) أي الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وزد بعدهما ركعتين غير مؤكدتين لحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أم حبيبة: "مَنْ حَافَظ على أرْبَعٍ رَكعاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعِ بَعْدَها حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" أي منعه من دخولها. وقال الغزالي: ويستحب أن يقرأ في هذه النافلة آية الكرسي وآخر سورة البقرة. (ولا تشتغل إلى العصر إلا بتعلم علم) إما بالحضور عند المدرس أو بمطالعة كتب (أو إعانة مسلم) لقوله صلى الله عليه وسلم: "والله في عَوْنِ العَبْدِ ما دَامَ العَبْدُ في عَوْنِ أخِيهِ" والمعنى والله معين للعبد إعانة كاملة ما دام العبد معيناً لأخيه (أو قراءة قرآن أو سعي في معاش لتستعين به) أي المعاش (على دينك) أو فنون الخير وكن في انتظار الصلاة معتكفاً، فمن فضائل الأعمال انتظار الصلاة بعد الصلاة وكان ذلك سنة السلف (ثم صل أربع ركعات قبل العصر) وبعد جواب المؤذن (فهي) أي هذه الأربع (سنة مؤكدة) أي من حيث رجاء الدخول في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآتية، فإن دعوته تستجاب لا محالة لا من حيث مواظبتهصلى الله عليه وسلم عليهن، فإنه لم يواظب على السنة قبل العصر كمواظبته على ركعتين قبل الظهر. كذا في الإحياء، ولذلك كانت هذه الأربعة من الرواتب غير المؤكدة عند الشافعي، كما أفاده العزيزي (فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأً) وفي رواية عبداً (صلى أربعاً قبل العصر) رواه الترمذي وابن حبان عن عمر (فاجتهد أن ينالك دعاؤهصلى الله عليه وسلم) بالرحمة بأدائك هذه النافلة (ولا تشتغل بعد العصر. إلا بمثل ما سبق قبله) أي العصر (ولا ينبغي) أي لا يليق (أن تكون أوقاتك مهملة) أي متروكة بلا فائدة، وفي هذا الوقت يكره النوم. قال بعض العلماء: ثلاث يمقت الله عليها: الضحك بغير عجب، والأكل من غير جوع، ونوم بالنهار من غير سهر بالليل (فتشتغل في كل وقت بما اتفق) أي صلح فيه (كيف اتفق) أي على أي مقدار صلح (بل ينبغي) أي يطلب لك (أن تحاسب نفسك) على الهفوات والزلات، وأقل ذلك في اليوم من بعد الظهر أو العصر إلى الليل، وكان بعضهم يقيد حركاته في نهاره في كتاب، فإذا أمسى جعله بين عينيه، وحاسب نفسه على ما فيه، وبعضهم كان يحاسبها على خواطره في اليوم والليلة، ففي تلك المحاسبة بركة عظيمة كذا أفاده عبدالله الشرقاوي في ربيع الفؤاد (وترتب أورادك) وفي نسخة وظائفك أي أعمالك المقدرة (في ليلك ونهارك) فأوراد النهار قد مضى ذكرها، وأوراد الليل تأتي في كلامه كأوراد ما بعد اصفرار الشمس (وتعين لكل وقت شغلاً) أي وظيفة (لا تتعداه) أي لا تتجاوزه إلى غيره (ولا تؤثره) أي لا تختر ولا تقدم، وفي نسخة ولا تودع أي تجعل (فيه) أي ذلك الوقت (سواه) أي ذلك الشغل (فبذلك) أي الترتيب أو التعيين وفي نسخة ففيه (تظهر بركة الأوقات فإما إذا تركت) أي جعلت فهو متعد لمفعولين (نفسك سدى) بضم السين أي لاغياً بلا أوارد (مهملاً) أي متروكاً (إهمال البهائم) التي (لا تدري) أي البهائم (بماذا تشتغل) أي البهائم (في كل وقت فينقضي) أي يذهب (أكثر أوقاتك ضائعاً) أي هالكاً (وأوقاتك عمرك وعمرك رأس) أي أصل (ما لك وعليه) أي المال (تجارتك) أي تصرفك في البيع والشراء (وبه) أي المال (وصولك إلى نعيم دار الأبد في جرار) بكسر الجيم (الله تعالى) أي في الجنة (فكل نفس) بفح الفاء، وهو جزء من الهواء يخرج من باطن البدن في جزء من الزمن (من أنفاسك جوهرة) أي مثل جوهرة، أي حجر ينتفع به (لا قيمة لها) أي الجوهرة (إذ لا بدل له) أي لذلك النفس (فإذا فات) أي ذهب النفس عنك (فلا عود له) فينبغي لك الأدب معه تعالى ومراقبته تعالى في كل نفس من أنفاسك، فتكون في كل نفس سالكاً طريقاً إليه تعالى، وهو معنى قولهم الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، قال بعضهم: إن اليوم ينادي كل وقت بقوله: يا ابن آدم أنا يوم جديد، وأنا بما عملت فيه شهيد، فاغتنمني، فإنك لا تدركني إذا غربت الشمس (فلا تكن كالحمقى) بالقصر، وهو جمع أي كالقوم الذين فسد عقلهم (المغرورين) بالدنيا والشيطان (الذين يفرحون في كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعمارهم فأي خير في مال يزيد) كل يوم (وعمر ينقص) في كل لحظة (ولا تفرح إلا بزيادة علم أو عمل صالح فإنهما رفيقاك يصحبانك في القبر) ويؤنسانك فيه (حيث يتخلف) أي يتأخر (عنك أهلك) أي زوجتك كما في المصباح (ومالك وولدك وأصدقاؤك) كقول الشاعر من بحر الطويل:
تَزَوَّدْ قَرِيناً مِنْ فِعَالِكَ إِنَّما >< قَرِينُ الفَتَى في القَبْرِ ما كانَ يَعْمَلُ
(ثم إذا اصفرت الشمس) بأن تقرب من الأرض (فاجتهد أن تعود إلى المسجد قبل الغروب وتشتغل) في ذلك الوقت (بالتسبيح والاستغفار) مثل: سبحان الله العظيم وبحمده، ومثل: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأسأله التوبة والاستغفار على الأسماء التي في القرآن أحسن، كقوله: أستغفر الله إن كان غفاراً، أستغفر الله إنه كان تواباً، رب اغفر وارحم، وأنت خير الراحمين، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين، فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، كذا في الإحياء (فإن فضل هذا الوقت كفضل ما قبل الطلوع قال الله تعالى) في سورة طه (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) أي اشتغل بتنزيه الله تعالى في طرفي النهار كما قاله أبو مسلم (واقرأ قبل غروب الشمس) أربع سور (وَالشَّمْسِ وَضُحَاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشَى وَالمُعَوِّذَتَيْنِ) بكسر الواو كما قاله القسطلاني، فمن قرأ سورة والشمس رزقه الله الفهم الذكي، والفطنة في جميع الأشياء ومن تلا سورة والليل حفظ من هتك الستر، ومن تلا سورة الفلق وقي السوء، ومن تلا سورة الناس عصم من البلايا، وأعيذ من الشيطان، ومن داوم على قراءتها كان رزقه كالمطر (ولتغرب عليك الشمس وأنت في الاستغفار) الواو للحال، كذا في أكثر النسخ كما في الإحياء، وفي نسخة، ولا تغرب عليك الشمس إلا وأنت في الاستغفار (فإذا سمعت الأذان فأجبه وقل بعده: اللهم إني أسألك) أي أطلب منك (عند إقبال ليلك وإدبار نهارك وحضور صلاتك وأصوات دعاتك) بالتاء جمع داع اسم فاعل (أن تؤتي) أي تعطي (محمداً الوسيلة) وهي منزلة في الجنة (الدعاء) أي اقرأ الدعاء بتمامه (كما سبق) أي في دعاء الصبح، وفي سنن أبي داود والترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، اغفر لي، هكذا في الأذكار، وهذا موافق لما في الإحياء: قال الغزالي: فينبغي أن يلاحظ العبد أحواله، فإن ساوى يوم أمسه فيكون مغبوناً، وإن كان شراً منه، فيكون ملعوناً فإن رأى نفسه متوافراً على الخير جميع نهاره، فليشكر الله تعالى على توفيقه، وليشكره تعالى على صحة جسمه وبقاء عمره (ثم صل الفرض بعد جواب المؤذن والإقامة) أي وبعد ركعتين خفيفتين فهما قبل المغرب سنة غير مؤكدة كما صححه النووي (وصل بعده) أي الفرض (قبل أن تتكلم) وقبل أن تشتغل بشيء (ركعتين) تقرأ فيهما قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد (فهما راتبا المغرب) مؤكدة (وإن صليت بعدهما أربعاً تطيلهن فهن أيضاً سنة) وهي سنة الأوابين (وإن أمكنك أن تنوي الاعتكاف إلى العشاء وتحيي ما بين العشاءين بالصلاة فافعل) فإن غاية صلاة الأوابين عشرون ركعة. وقيل: ست ركعات كما أفاده البجيرمي. وكما قال الغزالي في الإحياء، ونقل من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العشاءين ست ركعات. وقال البجيرمي: نقل عن الرملي وصلاة الأوابين عشرون بين المغرب والعشاء. ورويت ستاً وأربعاً وركعتين فهما أقلها (فقد ورد في فضل ذلك) أي إحياء ما بين العشاءين بالصلاة والقرآن في الإحياء (ما لا يحصى) قال الغزالي في الإحياء من عكف نفسه فيما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة أو بقرآن، كان حقاً على الله أن يبني له قصرين في الجنة، مسيرة كل قصر منهما مائة عام، ويغرس له بينهما غراساً لو طافه أهل الأرض لوسعهم. وقال أيضاً: إن كان المسجد قريباً من منزلك. فلا بأس أن تصلي تلك الصلاة في بيتك إن لم يكن عزمك العكوف في المسجد (وهي) أي هذه الأربع أو ما بين العشاءين في بعض النسخ، وهو بالتذكير (ناشئة الليل) المذكورة في قوله تعالى إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً، أي إن بدء الليل بالصلاة أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان لانقطاع الأصوات والحركات، وأعظم سداداً من جهة وقعه في القلوب لحضور القلب، لأن الأصوات هادئة والدنيا ساكنة، وكان عليبن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء، ويقول: وهو ناشئة الليل كما في السراج المنير (لأنه) أي ما بين العشاءين (أول نشأة) بالهمزة دون الواو، أي أول ساعات الليل، وأما النشوة بالواو، فمعناه السكر كما علم من الصحاح والمصباح (وهي) أي ناشئة الليل (صلاة الأوابين) أي التوابين كما قد فسر ناشئة الليل في الآية ببدء الليل عطاء وعكرمة، وكما فسرها عليبن الحسين بصلاة الأوابين وتسمى أيضاً صلاة الغفلة لغفلة الناس عنها، بسبب عشاء أو نوم أو نحو ذلك (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع فقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي الصلاة ما بين العشاءين فإنها) أي هذه الصلاة (تذهب بملاغات النهار وتهذب آخره) وقال في الإحياء. وروي عن الحسن أنهصلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم: "الصَّلاة بيْنَ العَشَاءَيْنِ"" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ بيْنَ العَشَاءَيْنِ، فَإنَّها تُذْهبُ بمُلاَغَاتِ النَّهار، وَتُهَذِّبُ" آخره بالخاء المعجمة بعد الهمزة الممدودة، والضمير عائد إلى النهار، ومعنى تهذب أي تنقى. وقال شيخنا يوسف: هو بالجيم الساكنة. وهو بمعنى الثواب، فكان الضمير راجعاً إلى المصلي، ومعنى تذهب أي تزيل والأول أظهر (والملاغات) بضم الميم ثم باللام المفتوحة الممدودة، ثم بالغين الممدودة كما في الجامع والإحياء (جمع ملغات فهي) مأخوذة (من اللغو) ومعناها كلمات ذوات لغو، أي لا فائدة فيها، وسئل أنس عمن ينام بين العشاءين، قال: لا تفعل فإنها الساعة المرادة بقوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ} عن ابن أبي حازم قال: في هذه الآية ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين.
     وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه يقول في معنى تتجافى جنوبهم عن المضاجع، أي تتجافى لذكر الله، إما في الصلاة وإما في قيام أو قود، أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله، وقال الشرقاوي في ربيع الفؤاد، ثم بعد صلاة الأوابين صل ركعتين بنية تونيس القبر، وإن شئت فقدمها على صلاة الأوابين تقرأ في الأولى بعد الفاتحة الكافرون. وفي الثانية إذا جاء نصر الله، أو تقرأ في الأولى إذا زلزلزت، وفي الثانية ألهاكم. (فإذا دخل وقت العشاء فصل أربع ركعات قبل الفرض إحياء لما بين الأذانين) أي الأذان والإقامة للخبر بين كل أذانين صلاة، وهذا الأربع لم يوجد في خصوصها حديث كمال قال البركوي. والمذكور في التحرير أن الراتبة قبل العشاء ركعتان، لكنها غير مؤكدة، ولذلك لم يذكرها النووي في المنهاج (ففضل ذلك) أي الإحياء لما بين الأذان والإقامة (كثير وفي الخبرأن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد) وهذا الخبر ليس دليلاً على الراتبة التي قبل العشاء (ثم صل الفرض وصل الراتبة) أي بعده (ركعتين) وهما مؤكدتان ولو للحاج بمزدلفة وإنما سن له ترك النفل المطلق ليستريح ويتهيأ لما بين يديه من الأعمال الشاقة يوم النحر (واقرأ فيهما) أي الركعتين (سورة السجدة) والظاهر أنها سجدة الحرز كما يدل لذلك ما في النسخة من قوله ألم السجدة، وقول الإحياء وعوارف المعارف، وسجدة لقمان معناه سورة السجدة التي تلي سورة لقمان، كما أفاده بعض المشايخ. (وتبارك الملك أو سورة يس والدخان) فإن لم تصل فلا تدع قراءة هذه السورة أو بعضها قبل النوم كذا في الإحياء. وعن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ تبارك وألم تنزيل، ويقول هما يفضلان على كل سورة في القرآن بسبعين حسنة، ومن قرأهما كتب له سبعون حسنة، ورفع له سبعون درجة. وعن أبيبن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ ألم تَنْزِيلُ أُعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كَمَنْ أحْيَا لَيْلَةَ القَدْرِ".
     وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتابِ اللَّهِ ما هِيَ إلاَّ ثلاثونَ آيةً، شَفَعَتْ لِرَجُلٍ يَوْمَ القِيامَةِ فَأخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ وأدْخَلَتْهُ الجَنَّةَ وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يس في لَيْلَةٍ أصْبَحَ مَغْفُوراً لَهُ". وعن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَخَلَ المَقَابِرَ فَقَرَأ سُورَةَ يس خُفِّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ" وروي أنهصلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَرَأَ حَم الدُّخان لَيْلَةَ جُمُعَةٍ أصْبَحَ مَغْفُوراً لَهُ" كذا في السراج المنير (فذلك) أي المذكور من تلك السور (مأثور) أي منقول (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أنه أكثر قراءتها في كل ليلة وكذلك أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة سورة الزمر والواقعة، وبني إسرائيل في الإحياء (وصلِّ بعدهما) أي الركعتين المؤكدتين (أربع ركعات) واقرأ فيها آخر البقرة، وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر أو غيرها، كذا في الإحياء. وظاهر عبارة الإحياء أن هذه الأربعة تكون بتسليمة واحدة كما هي الأفضل عند أبي حنيفة. وقيل: إن هذه الأربعة تؤدي كلها إذا صلى العشاء في غير الوقت المستحب جبراً لذلك النقص، وأما إذا صلاها في الوقت المستحب، فهو مخير بين الأربع والركعتين. كما قاله البركوي (ففي الخبر ما يدل على عظم فضلهن) كخبر مسلم أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل.
     وروي أيضاً أن كل ليلة فيها ساعة إجابة كذا في التحفة. وروي عن عائشة أنها سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما صلى العشاء قط، فدخل بيتي إلاّ صلى أربع ركعات، أو ست ركعات رواه أبو داود. ودل هذا الخبر على أن الأربع بعد العشاء فضيلة، والمؤكدة منها ركعتان كذا قاله البركوي. والظاهر أن هذه الأربعة هي النفل المطلق في الليل. وقال الشرقاوي: وإذا صلى سنة العشاء سن له أن يصلي ركعتين قبل الوتر بنية بقاء الإيمان، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة إذا زلزلت، وفي الثانية ألهاكم (ثم صل الوتر بعدها) أي هذه الأربع (ثلاثاً بتسليمتين أو بتسليمة وأحدة) والفصل بين ركعة، وكل ركعتين بالسلام أفضل من الوصل (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها) أي الثلاث (سورة سَبِّح اسْم رَبِّكَ الأعْلَى) في الأولى (وقُلْ يا أيُّها الكافِرونَ) في الثانية (والإخْلاص والمعوذتين) في الثالثة، وإذا أوتر بثلاث مفصولة عما قبلها قسمان أو ست أو أربع، قرأ ذلك في الثلاثة الأخيرة، وإذا أوتر بأكثر من ثلاث موصولة كخمس مثلاً قرأ المطففين والانشقاق في الأولى، والبروج والطارق في الثانية، لئلا يلزم خلو ما قبل الثلاث عن سورة أو تطويلها على ما قبلها، ويسنُّ أن يقول بعد الوتر سبحان الملك القدوس ثلاث مرات كما رواه النسائي وابن السني. ويرفع صوته بالثلاثة كما في رواية أحمد والنسائي، ثم يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن علي قوله: وأعوذ بك منك. قيل: معناه أعوذ بك من شر ما قضيت وقيل: هو إشارة إلى التوحيد، وذلك أنهصلى الله عليه وسلم استعاذ أولاً بالضد من الضد، فاستعاذ بالرضا من السخط، وبالمعافاة من العقوبة، ولما كان الله تعالى لا ضد له، فلا يصح أن يقول: أعوذ بك من غيرك. لانتفاء المثل والشريك، فرجعصلى الله عليه وسلم إليه تعالى فقال: "أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ" قوله: "لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ" أي لا أطيقه في مقابلة نعمة واحدة. وقيل معناه لا أحصي نعمتك والثناء بها عليك، وإن اجتهدت في الثناء عليك، وقوله: أنت كما أثنيت على نفسك، أي بقولك، فللَّه الحمد الآية. وغير ذلك (فإن كنت عازماً على قيام الليل) أي صلاته بعد النوم وثقت بيقظتك (فأخِّر الوتر ليكون آخر صلاتك بالليل وتراً) لحديث الشيخين اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً، ولحديث مسلم من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل (ثم اشتغل بعد ذلك) أي الوتر (بمذاكرة علم و مطالعة كتاب) فإن ذلك في ذلك الوقت سبب للفتوح كما قاله بعضهم وقال الشاعر:
مَنْ حَازَ العِلْمَ وَذَاكَرَهُ >< صَلَحَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتُهْ
فَأدِمْ لِلْعِلْمِ مُذَاكَرَةً >< فَحَيَاةُ العِلْمِ مُذَاكَرَتُهْ
(ولا تشتغل باللهو) أي الشيء الذي تفرح به فيلهيك، أي يشغلك عما ينفعك، ثم ينقضي كلهو الفتيان (واللعب) أي الباطل الذي لا ثمرة له كلعب الصبيان (فيكون ذلك) أي المذاكرة والمطالعة (خاتمة أعمالك قبل نومك فإنما الأعمال بخواتيمها) أي عندنا وبالنسبة إلى اطلاعنا في بعض الأشخاص، وفي بعض الأحوال، وأما بالنسبة إلى علمه تعالى وإرادته فالأعمال بالسوابق، لكن لما كانت السابقة مستورة عنا، والخاتمة ظاهرة لنا صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَواتِيمِ".

آداب النوم
     هذه الترجمة ساقطة في بعض النسخ (فإذا أردت النوم) فعليك بآدابه الثمانية الأول الاستقبال كما قال (فابسط فراشك مستقبل القبلة) والاستقبال على ضربين أحدهما استقبال المحتضر، وهو المستلقي على قفاه، فاستقباله أن يكون وجهه وأخمصاه إلى القبلة، وهذا الاستلقاء مباح للرجال، ومكروه للنساء، وثانيهما وهو سنة ما ذكره بقوله (ونم على يمينك كما يضجع الميت في لحده) ويكون وجهك مع قبالة بدنك إلى القبلة وأما النوم على الوجوه، فهو نوم الشياطين، وهو مكروه وأما النوم على اليسار، فهو مستحب عند الأطباء لأنه يسرع هضم الطعام، وينبغي من جهة الطب أن يضطجع على الجانب الأيمن قليلاً بعد الأكل، ثم ينقلب على الجانب الأيسر، والثاني مذكور بقوله (واعلم) أي تذكر عند إرادة النوم (أن النوم مثل الموت واليقظة مثل البعث) أي النشر (ولعل الله تعالى يقبض روحك في ليلتك فكن مستعداً) أي متهيئاً (للقائه بأن تنام على طهارة) وهذا ثالث الآداب (و) الرابع أن (تكون وصيتك مكتوبة تحت وسادتك) بكسر الواو أي مخدتك، وفي نسخة تحت رأسك، أي فإنك لا تأمن القبض من النوم، فإن من مات بغير وصية لا يتكلم في مدة البرزخ، وإن الأموات يتزاورون في قبورهم سواه فيقول بعضهم لبعض: ما بال هذا المسكين فيقال: إنه مات بغير وصية، كذا نقل عن ابن الصلاح. وقال البجيرمي: يمكن حمل ذلك على ما إذا مات من غير وصية واجبة، بأن نذرها أو خرج مخرج الزجر عن ترك الوصية (و) الخامس أن (تنام تائباً من الذنوب مستغفراً) كما روي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قالَ حِينَ يأوِي إلى فِرَاشِهِ أسْتَغْفِرُ الله الَّذِي لا إِل?هَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثلاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ذُنُوبَهُ". (عازماً على أن لا تعود إلى معصية) إذا استيقظت (واعزم على الخير لجميع المسلمين إن بعثك الله تعالى) أي أيقظك من نومك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَوَى إلى فِرَاشِهِ لا يَنْوِي ظُلْمَ أَحَدٍ وَلاَ يَحْقِدُ عَلى أحَدٍ، غُفِرَ لَهُ ما اجْتَرَمَ" (وتذكر أنك ستضجع في اللحد كذلك) أي كنومك (وحيداً) بنفسك (فريداً) عن الناس (ليس معك إلا عملك ولا تجزى إلا بسعيك) أي بعملك من خير وشر. قال تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يَرَى} (النجم:40) أي في ميزانه من غير شك يوم القيامة بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى. (و) السادس مذكور بقوله أن (لا تستجلب النوم تكلفاً) بأن لا تنام إذا لم يغلبك النوم إلا إذا قصدت به الاستعانة على القيام في آخر الليل، فقد كان نومهم غلبة، وأكلهم فاقة، وكلامهم ضرورة ولا تتنعم (بتميهد الفرش الوطيئة) أي ببسط الفرش الناعمة وتهيئتها، بل اترك ذلك و اقتصد فيه (فإن النوم تعطيل للحياة إلا إذا كانت يقظتك وبالاً) أي سوءاً في العاقبة (عليك فنومك سلامة لدينك) فاستجلب النوم حينئذٍ كما مر، ويسن للإنسان إذا فارق فراشه وعاد إليه أن ينفضه قبل أن ينام فيه لقولهصلى الله عليه وسلم: "إِذا أَوَى أَحَدُكُمْ إلى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَخِلَةِ إزَارِهِ، فإِنَّهُ لا يَدْرِي ما خَلَفَهُ عَلَيْهِ" رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (واعلم أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة فلا يكن نومك بالليل والنهار أكثر من ثمان ساعات) فإن نمت في الليل هذا القدر فلا معنى للنوم في النهار (فيكفيك إن عشت مثلاً ستين سنة أن تضيع منها عشرين سنة وهو ثلث عمرك و) السابع مذكور في قوله و(أعد) أي هيىء (عند) إرادة (النوم) عند رأسك (سواكك وطهورك) أي ما تتطهر به من الماء كذلك كان يفعل بعض السلف. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستاك في كل ليلة مراراً عند كل نومة وعند التنبيه منها، وإن لم يتيسّر لك الطهارة استحب لك مسح الأعضاء بالماء، فإن لم تجد لتقعد ولتستقبل القبلة ولتشتغل بالذكر والدعاء، والتفكر في آلاء الله تعالى وقدرته (واعزم على قيام الليل) أي عند التيقظ (أو على القيام قبل الصبح فركعتان في جوف الليل كنز من كنوز البر فاستكثر من كنوزك ليوم فقرك) أي حاجتك وهو في القبر وفي القيامة (فلن تغني عنك كنوز الدنيا إذا مت) وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أنْ يَقُومَ يُصَلِي مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبْتَهُ عَيْنَاهُ حَتَّى يُصْبِحَ كُتِبَ لَهُ ما نَوَى، وكانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنِ اللَّهِ تعالَى" والثامن الدعاء عند النوم وعند التنبه كما قال (وقل عند نومك) أي اضطجاعك (باسمك) الباء للاستعانة، وهذا متعلق بوضعت (ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه فاغفر لي ذنبي اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) وفي نسخة يوم تجمع كما في الإحياء (اللهم باسمك أحيا وأموت وأعوذ بك اللهم من شركل ذي شر ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم اللهم أنت الأول)أي السابق على الأشياء كلها (فليس قبلك شيء وأنت الآخر) أي الباقي بعد فناء الخلق (فليس بعدك شيء وأنت الظاهر) أي العالي كما قاله العزيزي وهو المناسب هنا (فليس فوقك شيء وأنت الباطن) أي المتحجب عن الحواس بحجب كبريائه (فليس دونك) أي في قربك (شيء اقضي عني الدين وأغنني من الفقر) فقوله: أنت الأول إلى هنا موافق للإحياء وللأذكار، وذلك رواية أبي داود.
     وأما رواية مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه فكذلك إلا لفظ: اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر فهو بنون العظمة (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها) بالتاءين كما في الإحياء والأذكار وبحذف إحدى التاءين كما في الجامع (لك مماتها ومحياها) أي أنت المالك لإماتتها ولإحيائها، أي وقت شئت لا مالك لهما غيرك (إن أمتها فاغفر لها) أي ذنوبها فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (وإن أحييتها فاحفظها) أي صنها عن الوقوع فيما لا يرضيك (بما تحفظ به عبادك الصالحين اللهم إني أسألك العفو والعافية) أي أطلب منك السلامة (في الدين) أي من الافتتان وكيد الشيطان (والدنيا) أي من الآلام والأسقام (والآخرة) أي من الفزع الأكبر ومن جهنم، وهذا أي قولهم: اللهم أنت ما رواه مسلم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهمَّ أيْقِظْنِي في أَحَبِّ السَّاعاتِ إلَيْكَ وَاسْتَعْمِلْني بِأَحَبِّ الأعْمَالِ إليكَ لتقربني) بلام التعليل، وفي نسخة حتى تقربني وفي الإحياء سقوط ذلك (إليك زلفى) أي قربة أو منزلة وهي مفعول مطلق أو تمييز (وتبعدني عن سخطك بعداً) مفعول مطلق (أسألك فتعطيني وأستغفرك فتغفر لي وأدعوك فتستجيب لي ثم اقرأ آية الكرسي). وروى البيهقي أن من قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره، والأبيات حوله كذا في السراج المنير. (وآمن الرسول إلى آخر السورة). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" قال الشربيني أي عن قيام الليل، أو عن كل ما يسوؤه أي يحزنه. وروى أبو بكر عن علي أنه قال: ما كنت أرى أحداً يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الثلاثة الأواخر من سورة البقرة، أي وهي من قوله تعالى: {مَا فِي السَّم?وَاتِ} (والإخلاص) أي قل هو الله أحد ثلاث مرات، كما ذكره النووي في الأذكار، وليس المراد بالإخلاص هنا سورة الكافرون، فإنها تسمى بالإخلاص أيضاً (والمعوذتين) وانفث في يديك عند قراءتهما، وامسح بهما رأسك ووجهك، وسائر جسدك وافعل ذلك ثلاث مرات، والنفث نفخ لطيف بلا ريق (وتبارك الملك) للإتباع كما مر وقل في تيقظاتك وتقلباتك مهما تنبهت: لا إله إلا الله الواحد القهار رب السموات والأرض وما بينهما، العزيز الغفار كما رواه ابن السني عن عائشة رضي الله عنها (وليأخذك النوم وأنت على ذكر الله تعالى) وليكن أول ما يرد على قلبك عند التيقظ ذكر الله تعالى، فذلك علامة الحب لله تعالى، وعلامة تكشف عن باطن القلب (وعلى الطهارة) أي من الحدثين (فمن فعل ذلك) أي الطهارة عند النوم كما في الإحياء (عرج بروحه إلى العرش وكتب مصلياً إلى أن يستيقظ) وكانت رؤياه صادقة، وإن لم ينم على طهارة فتلك المنامات أضغاث أحلام لا تصدق، وهذا أريد به طهارة الباطن والظاهر جميعاً، وطهارة الباطن هي المؤثرة في انكشاف حجب الغيب (فإذا استيقظت) لتقوم (فارجع إلى ما عرفتك أولاً) أي في باب آداب الاستيقاظ بأن تقول: الحمد لله الذي أحيانا إلى آخر ما ذكره المصنف من أدعية التيقظ (وداوم على هذا الترتيب) أي المثبت في هذا الكتاب من الوظائف، وليس المراد بالترتيب هنا خصوص تقديم الشيء على غيره (بقية عمرك فإن شقت عليك المداومة) على الاشتغال بالوظائف المذكورة (فاصبر صبر المريض على مرارة الدواء انتظاراً للشفاء وتفكر في قصر عمرك وإن عشت مثلاً مائة سنة) إن غاية (فهي) أي المائة (قليلة بالإضافة) أي بالنسبة (إلى مقامك) بضم الميم أي إقامتك (في الدار الآخرة وهي أبد الآباد) أي لا نهاية لها.
     قوله: وهي في محل التعليل، كقوله: سابقاً فهي قليلة (وتأمل أنك كيف تتحمل المشقة والذل في طلب الدنيا) أي من الأموال (شهراً أو سنة رجاء أن تستريح بها) أي الدنيا (عشرين سنة مثلاً فكيف لا تتحمل ذلك) أي المشقة في الاشتغال بالوظائف والذل في عدم تحصيل الدنيا (أياماً قلائل) أي مدة حياتك في الدنيا (رجاء الاستراحة أبد الآباد) فالدنيا وما فيها بالنسبة لثواب الآخرة أقل قليل (ولا تطول أملك) في أنك تعيش شهراً مثلاً (فيثقل عليك عملك) وتسوف بالعمل نفسك (وقد قرب الموت) لأن ذكر الموت يوجب التجافي عن دار المغرور، ويتقاضى الاستعداد للآخرة، والغفلة عن الموت تدعو إلى الانهماك في شهوات الدنيا (وقل في نفسك إني أتحمل المشقة اليوم) أي في اشتغال الأوراد (فلعلي موت الليلة) فتكون الأوراد ذخيرة لي (وأصبر الليلة) على تحمل مرارة السهر في العبادة (فلعلي أموت غداً) فتكون العبادة زاداً لي في الآخرة (فإن الموت لا يهجم) بضم الجيم، أي لا يدخل (في وقت مخصوص) بل يدخل في كل وقت (وحال مخصوص) بل في كل حال من الصحة والمرض والغفلة والذكر (وسن مخصوص) بل يدخل في الصبيان والشبان والشيوخ (فلا بد من هجومه) أي الموت على كل حال (فالاستعداد) أي التهيؤ (له) أي الموت (أولى) أي أحق (من الاستعداد للدنيا) والمراد بالدنيا هنا الزائد على قدر الحاجة (وأنت تعلم) علم اليقين (أنك لا تبقى فيها) أي في دار الدنيا (إلا مدة يسيرة) أي قليلة (ولعله لم يبق من أجلك) أي مدة حياتك (إلا يوم واحد أو نفس واحد فقدر هذا) أي هجوم الموت في لحظتك أو في وقتك (في قلبك كل يوم) قال صلى الله عليه وسلم: "تُحْفَةُ المؤمِنِ المَوْتُ" وإنما قال هذا لأن الدنيا سجن المؤمن إذ لا يزال فيها في تعب من تحمل مشقة نفسه، وكسر شهواته ومدافعة شيطانه، فالموت إطلاق له من هذا العذاب والإطلاق تحفة، أي هدية في حقه، وكان الربيعبن خيثم يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد. (وكلف) أي احمل على مشقة (نفسك الصبر على طاعة الله يوماً فيوماً) أي وقتاً بعد وقت، فقوله نفسك مفعول أول والصبر مفعول ثان، لأن كلف يتعدى لاثنين كما هو مفهوم من المصباح (فإنك لو) لم تقدر دخول الموت عليك بغتة بل (قدرت البقاء) في الدنيا (خمسين سنة) أي مثلاً (وألزمتها الصبر على طاعة الله نفرت) أي تلك النفس أي جزعت (واستعصت) بتقديم العين على الصاد، أي خالفت، وفي بعض النسخ واستصعبت بالصاد فالعين فالموحدة، وهذا أحسن أي وجدت النفس صعباً (عليك) لأنك قدرت بعد الموت (فإن فعلت ذلك) أي تكليف نفسك الصبر على الطاعة (فرحت عند الموت فرحاً لا آخر له) برؤيتك محلك في الجنة لأنك قدر استعددت للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس (وإن سوفت) بالطاعة (وتساهلت) لها (جاءك الموت) بغتة (في وقت لا تحتسبه) أي لا تعرف أن الموت جاءك في ذلك الوقت (وتحسرت) بالحاء المهملة أي حزنت (تحسراً لا آخر له) لأنهماكك في الدنيا ولاتباعك شهواتك (وعند الصباح يحمد القوم السرى) بضم السين وفتح الراء ومعناه في الأصل السير أول الليل وأوسطه وآخره كما في المصباح، والمراد بذلك الطاعة في ذلك الوقت، وقوله يحمد بضم الياء والحاء الساكنة وكسر الميم، كما ضبطه بذلك شيخنا يوسف السنبلاويني وهو موافق للصحاح والمصباح، والمعنى أن العباد الذين اشتغلوا بالعبادة في الليل صارت عبادتهم إلى الحمد، ووجدوها محمودة كما أن السائرين في الليل صار سيرهم إلى الحمد ووجدوه محموداً عندهم حالة الصباح، لأن السير في الليل يطوي الأرض (وعند الموت يأتيك الخبر اليقين) أي الواضح أي في أنك تفرح بحصول رضا رب العالمين، أو تحزن بوجدان سخطه (ولتعلمن نبأه) أي خبر المذكور من الفرح والحزن (بعد حين) أي انقضاء عمرك (وإذا أرشدناك) أي دللناك (إلى ترتيب الأوراد فلنذكر لك كيفية الصلاة والصوم وآدابهما) في فصلين (وآداب الإمامة والقدوة) في فصل واحد (والجمعة) في فصل واحد.

آداب الصلاة
     أي المطلوبات فيها (فإذا فرغت من طهارة الحدث) أي الأصغر والأكبر (و) من (طهارة الخبث) بفتحتين أي النجس الذي لا يعفى عنه (في البدن) حتى داخل الفم والأنف والعين والأذن (والثياب) وغيرها من كل محمول ملاق له (والمكان) الذي يصلي فيه (ومن ستر العورة من السرة إلى الركبة) كما هي للرجل حراً كان أو عبداً (فاستقبل) أي بصدرك (القبلة) أي عينها مطلقاً في القرب يقيناً وفي البعد ظناً، وعند الإمام أبي حنيفة التوجه يكون بجزء من قاعدة مثلث، وعند الإمام مالك القبلة هي الجهة مطلقاً في القرب والبعد. وعند الإمام أحمد هي العين في القرب، والجهة في البعد، فمذهب أبي حنيفة أوسع في أمر القبلة، وبعده مذهب مالك، وبعده مذهب الإمام أحمد، وهو المتوسط، وبعده مذهب الإمام الشافعي، وهو أضيق لأنه لا بد من العين عنده مطلقاً، أي في القرب والبعد كذا في فتاوى الخليلي، ثم رأيت نصاً في فقه مذهب أبي حنيفة، وهو قوله: فلو انحرف عن العين انحرافاً لا تزول منه المقابلة بالكلية جاز، فيجوز التيامن أو التياسر، لأن وجه الإنسان مقوس، لأنه يبقى شيء من جوانب وجهه مقابلاً للقبلة، وذلك عند زيادة البعد منها، ولو جعل الكعبة عن يمينه أو يساره، فلا يجوز بالاتفاق إذ لا شك حينئذٍ في خروجه عن الجهة بالكلية، لأنه لم يقع فيما بين خطين من قاعدة مثلث، وهذه صورته: فإذا أراد معرفة الجهة فلينظر في مغرب الصيف في أطول أيامه، ومغرب الشتاء في أقصر أيامه، فليدع الثلثين في الجانب الأيمن، والثلث في الأيسر، والقبلة عند ذلك ولو لم يفعل هكذا، وصلَّى فيما بين المغرب جاز اهـ. ثم إذا أراد معرفة عين القبلة لأهل جاوه، فليعلم أولاً خط الاستواء في المشرق إلى المغرب، ثم ليجعل عليه أشياء متساوية كالفلوس مصفوفة من جهة المغرب إلى جهة المشرق بأربعة وستين شيئاً، وهو مقدار فضل الطول بين مكة وجاوه، ثم ليجعل من جهة المغرب إلى جهة اليمين مصفوفاً بواحد وعشرين، وهو عرض مكة من خط الاستواء، وليجعل جهة المشرق إلى جهة اليسار مصفوفاً بستة، وهو مقدار عرض جاوه، ثم خط من آخر الستة إلى آخر الواحد والعشرين، فذلك ميل القبلة وهذه صورته: (قائماً) بالاعتماد على القدمين أو أحدهما (مزاوجاً بين قدميك) بالزاي فالألف ثم الجيم كما في الإحياء، أي جاعلاً لهما مسامتاً لا تتقدم إحداهما على الأخرى، ولا تسترخ عنها أو بالحاء المهملة في آخره، وهذا هو الأنسب أي مبعداً بينهما بقدر شبر (بحيث لا تضمهما) وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصفن والصفد في الصلاة، فالصفد هو اقتران القدمين معاً، والصفن هو رفع إحدى الرجلين (واستو) بنصب الفقار (قائماً) وأما الرأس فالأفضل إطراقه لأنه أقرب للخشوع وأغض للبصر (و) بعد استواء القيام (اقرأ قل أعوذ برب الناس تحصناً) أي تحفظاً (بها) أي بهذه السورة (من الشيطان الرجيم وأحضر قلبك ما أنت فيه) وهذا هو المسمى بالخشوع (وفرغه) أي القلب (من الوسواس) أي حديث النفس لأن التفريغ أعون على الخشوع (وانظر) أي تأمل (بين يدي من تقوم ومن تناجي) في الصلاة وكيف تناجي وبماذا تناجي وعظم في نفسك قدر المناجاة (واستح أن تناجي مولاك بقلب غافل) عما أنت فيه (وصدر مشحون) أي مملوء (بوساوس الدنيا) أو بتفكر في أمور الآخرة كالجنة والنار، فهذا مكروه أيضاً على ما أفاده الرملي (وخبائث الشهوات واعلم) في الحال أنك قائم بين يدي الله تعالى و(أنه تعالى) أي مولاك (مطلع) أي عالم (على سريرتك) وهو ما تكتم في قلبك فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان (وناظر إلى قلبك) ومثل في صلاتك الجنة عن يمينك، والنار عن شمالك، فإن القلب إذا اشتغل بذكر الآخرة ينقطع عنه الوسواس، فيكون هذا التمثيل تداوياً لدفع الوسوسة، كذا في عوارف المعارف (فإنما يتقبل الله من صلاتك بقدر خشوعك) أي حضور قلبك (وخضوعك) أي سكون جوارحك (وتواضعك) أي تذللك (وتضرعك) أي خلوصك في الدعاء وقيل للصلاة أربع شعب حضور القلب وشهود العقل، وخضوع النفس وخضوع الأركان، فحضور القلب رفع الحجاب وشهود العقل رفع العتاب، وخضوع النفس فتح الأبواب، وخضوع الأركان وجود الثواب، فمن أتى الصلاة بلا حضور القلب فهو مصل لاهٍ، ومن أتاها بلا شهود العقل، فهو مصل ساهٍ، ومن أتاها بلا خضوع النفس فهو مصل خاطىء، ومن أتاها بلا خضوع الأركان، فهو مصل جافٍ، ومن أتاها كما وصف، فهو مصل واف، كذا في عوارف المعارف.
     وروي في الخبر: ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل. وقد روي في الخبر أن من خشع في صلاته وجبت له الجنة، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (واعبده) أي مولاك (في صلاتك كأنك تراه) أي اعبده تعالى حال كونك في صلاتك مثل حال كونك رائياً له، فإنك لو قدرت أنك قمت في عبادة ربك، وأنت تعاينه لم تترك شيئاً مما تقدر عليه من الخضوع والخشوع، وحسن السمت وحفظ القلب والجوارح، واجتماعك بظاهرك وباطنك إلا أتيت به كما أفاده إبراهيم الشبرخيتي (فإن لم تكن تراه) فاستمر على إحسانك العبادة (فإنه يراك) إذ هو المشاهد لكل أحد من خلقه في حركته وسكونه (فإن لم يحضر قلبك ولم تسكن جوارحك لقصور) أي نقص (معرفتك بجلال الله تعالى فقدر) في دوام قيامك في صلاتك (أن رجلاً صالحاً من وجوه) أي أشراف (أهل بيتك ينظر إليك) بعين كالئة (ليعلم كيف صلاتك فعند ذلك يحضر قلبك وتسكن جوارحك) خيفة أن ينسبك ذلك الرجل العاجز إلى قلة الخشوع (ثم) بعد إحساسك من نفسك ذلك (ارجع إلى نفسك) بالمعاتبة (وقل يا نفس السوء) إنك تدعين معرفة الله وحبه (ألا تستحين من خالقك ومولاك إذ قدرت اطلاع عبد ذليل من عباده عليك وليس بيده ضرك ولا نفعك) ولا عقاب ولا ثواب (خشعت جوارحك وحسنت صلاتك ثم إنك) بكسر الهمزة (تعلمين أنه مطلع عليك ولا تخشعين لعظمته أهو تعالى عندك أقل) أي أصغر وأحقر (من عبد من عباده فما أشد طغيانك) أي عصيانك (وجهلك وما أعظم عداوتك لنفسك) لأنك وقرت عبداً ذليلاً ولا توقرين الله تعالى وتخشين الناس، ولا تخشين الله تعالى، وهو أحق أن تخشيه (وعالج) أي زاول وداو (قلبك بهذه الحيل) بكسر الحاء وفتح الياء جمع حيلة، وهي الحذق في تدبير الأمور (فعساه) أي قلبك (أن يحضر معك في صلاتك فإنه) أي الشأن (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت) أي تدبرت (منها وأمَّا ما أتيت به) أي في صلاتك من القراءة والأذكار (مع الغفلة والسهو) عما أنت فيه بأن لم يحضر قلبك (فهو إلى الاستغفار والتكفير) أي فعل الكفارة من صدقة ونحوها (أحوج) لأن في صلاتك خللاً لعدم حضور قلبك، فالخشوع في الصلاة ولو في جزء منها واجب، لكنه ليس شرطاً لصحة الصلاة كما أفاده شيخنا أحمد النحراوي. (فإذا حضر قلبك) أي بأن لم يكن غافلاً (فلا تترك الإقامة وإن كنت وحدك) لأنها لافتتاح الصلاة، وتطلب للفائتة المفروضة أيضاً (وإن انتظرت) أي رجوت (حضور جماعة يصلون معك (فأذن ثم أقم) وهذا الكلام من أن الأذان لا يندب للمنفرد مبني على القول القديم، لأن المقصود من الأذان الإعلام، وهو منتفٍ للمنفرد، وهو ضعيف، والجديد ندبه للمنفرد مع رفع الصوت بعمران أو صحراء، وإن بلغه أذان غيره لكن يكفي في أذانه إسماع نفسه، بخلاف أذان الإعلام (فإذا أقمت فانو) أي استحضر النية أي كل معتبر فيها من قصد إيقاع الصلاة، وتعيين ذات وقت أو سبب، ونية فرض إن كانت الصلاة فرضاً ونية القصر للقاصر، ونية القدوة مثلاً للمأموم مع استحضار صورة الصلاة المركبة من الأركان.
     واعلم أن الاستحضار نوعان: استحضار حقيقي واستحضار عرفي. فالحقيقي أن يستحضر صورة الصلاة تفصيلاً بأن يستحضر ذات الصلاة جزءاً بعد جزء، والعرفي أن يستحضر صورة الصلاة جملة واحدة، ثم المقارنة نوعان: حقيقية وعرفية. فالحقيقية أن يقصد إيقاع الصلاة المتصفة بأنها ظهر مثلاً ولا يغفل عن ذلك من أول التكبير إلى آخره، والعرفية أن يكون القصد كما مر مقترناً بجزء من التكبير، فلا تضر الغفلة عنه في أثنائه، ونقل العلماء عن الإمام الشافعي أن الواجب عنده الاستحضار العرفي مع المقارنة الحقيقية، واختار النووي تبعاً لإمام الحرمين الاكتفاء بالمقارنة العرفية مع الاستحضار العرفي. هذا تلخيص ما في كشف النقاب للشيخ عليبن عبدالبر الونائي. (وقل في قلبك: أؤدي فرض الظهر لله تعالى) لتميز بقولك أؤدي الأداء عن القضاء وبالفرض عن النفل وبالظهر عن غيره (وليكن ذلك) أي معاني هذه الألفاظ (حاضراً في قبك عند تكبيرك) فإنه هو النية والألفاظ أسباب لحضورها (و) اجتهد أن تستديم ذلك إلى آخر التكبير بحيث (لا تعزب) أي لا تغيب (عنك النية) أي ذكرها (قبل الفراغ من التكبير) لأنه الواجب عند الشافعي، والأكمل عند إمام الحرمين (و) إذا حضر في قلبك ذلك فـ (ارفع يديك عند) إرادة (التكبير بعد إرسالهما أولاً إلى حذو منكبيك وهما) أي اليدان (مبسوطتان وأصابعهما منشورة ولا تتكلف ضمها) أي الأصابع (ولا تفريجها) بل اتركهما على مقتضى طبعها كذا في الإحياء، لكن قال ابن حجر كشيخ الإسلام: ويسن كشف الكفين، ونشر الأصابع وتفريقها تفريقاً وسطاً (بحيث تحاذي بإبهاميك شحمتي أذنيك وبرؤوس أصابعك أعلى أذنيك وبكفيك منكبيك فإذا استقرتا) أي اليدان (في مقرهما) كما ذكر (فكبر) أي ابتدىء التكبير مع إحضار النية المتقدمة كذا في الإحياء قال ابن حجر مع النووي: والأصح أن الأفضل في وقت الرفع أن يكون مع ابتداء التكبير.6 وقال الونائي: ويستحب انتهاء التكبير مع وضع اليدين (ثم ارسلهما) أي اليدين (برفق ولا تدفع يديك عند الرفع والإرسال إلى قدام دفعاً ولا إلى خلف رفعاً) أي عند انتهاء التكبير (ولا تنفضهما) بضم الفاء (يميناً ولا شمالاً) أي إذا فرغت من التكبير (فإذا أرسلتهما) بعد التكبير (فاستأنف رفعهما إلى صدرك) بعد الإرسال وإذا أردت قراءة الفاتحة، وهو الأفضل كما قال ابن حجر، ويسن إرسالهما إلى ما تحت الصدر، أي مائلاً إلى جهة اليسار (وأكرم اليمنى بوضعها على اليسرى وانشر أصابع اليمنى) التي هي المسبحة الوسطى (على طول ذراعك اليسرى واقبض بها) أي بأصابع اليمنى التي هي الإبهام والخنصر والبنصر (على كوعها) أي اليسرى كما قاله في الإحياء، أي فتقبض كوعك بإبهامك وكرسوعك بخنصرك وبنصرك، وترسل السبابة والوسطى جهة الساعد (وقل بعد التكبير) أي وبعد سكتة لطيفة بقدر سبحان الله سراً، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً (الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثم اقرأ وجهت وجهي) أي أقبلت بذاتي (للذي فطر السموات والأرض) أي خلقهما على غير مثال سابق (حنيفاً) أي مائلاً عن كل دين إلى دين الإسلام (مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي) أي عبادتي (ومحياي ومماتي) أي إحيائي وإماتتي منسوبان (لله رب العالمين لا شريك له وبذلك) أي بالتوحيد والصلاة والنسك (أمرت وأنا من المسلمين) وإن كنت خلف الإمام فاختصر في دعاء الاستفتاح لخوف عدم إدراك الفاتحة قبل ركوع الإمام (ثم) بعد سكتة لطيفة من ذلك (قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) سراً في كل ركعة لأن التعوذ مطلوب عند إرادة القراءة (ثم) بعد سكتة لطيفة (اقرأ الفاتحة بتشديداتها) أي الأربع عشرة، فإذا خففت مشدداً فقد أسقطت منها حرفاً (واجتهد في الفرق بين الضاد والظاء في قراءتك في الصلاة) فإنك لو أبدلت حرفاً بحرف آخر كضاد بظاء و حا بها، لم تصح قراءتك لتلك الكلمة، وكذا لو أبدلت ذال الذين المعجمة بالمهملة خلافاً للزركشي ومن تبعه، وإن كنت متعمداً في إتيان ما يغير المعنى كإبدال ضاد الضالين ظاء، بطلت صلاتك، وإن كنت ساهياً في ذلك بطلت قراءتك لا صلاتك إن أعدت القراءة على الصواب، ويسن لك السجود للسهو حينئذٍ، أما لو أتيت بما لم يغير المنى كإبدال ياء العالمين واواً بطلت قراءتك لا صلاتك إن أعدت الكلمة على الصواب (وقل آمين) بعد قراءة الفاتحة لأن نصفها دعاء، فاستحب أن يسأل الله إجابته، سواء كان في الصلاة أم خارجاً منها، لكنه فيها أشد استحباباً (ولا تصله) أي آمين (بقولك ولا الضالين وصلاً) بل أفصل بينهما بسكتة لطيفة تميز الذكر عن القرآن، ويسن في تلك السكتة أن تقول: رب اغفر لي لوروده في الخبر (واجهر بالقراءة في الصبح والمغرب والعشاء أعني) ندب الجهر (في الركعتين الأوليين إلا أن تكون مأموماً) فلا تجهر (واجهر بالتأمين) في الجهرية ولو كنت منفرداً (واقرأ في الصبح بعد الفاتحة من السور الطوال) بضم الطاء وكسرها (من المفصل) وأول المفصل الحجرات وآخره النبأ وطواله كسورة والمرسلات (وفي المغرب من قصاره) وهي من والضحى إلى آخر القرآن (وفي الظهر والعصر والعشاء من أوساطه نحو والسماء ذات البروج وما قاربها من السور) وفي صبح الجمعة إذا اتسع الوقت ألم تنزيل في الأولى، وهل أتى في الثانية بكمالها (وفي الصبح في السفر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) وهما يسميان سورتي الإخلاص، فسورة الكافرون لإخلاص العبادة والدين، وقل هو الله أحد لإخلاص التوحيد، وكذلك في ركعتي الفجر والطواف والتحية، وقراءة سورة تندب لإمام ومنفرد ومأموم لم يسمع قراءة إمامه (ولا تصل آخر السورة بتكبير الركوع، ولكن افصل بينهما بمقدار) قولك (سبحان الله) وتسن سكتة لطيفة أيضاً بين آمين والسورة إن قرأها، فإن لم يقرأها فبين آمين والركوع، ويسن للإمام أن يسكت بعد تأمينه في الجهرية بقدر قراءة المأموم الفاتحة إن علم أنه يقرؤها في سكتته، وأن يشتغل فيها سراً بدعاء أو ذكر أو قراءة وهي أولى (وكن في جميع قيامك مطرقاً) أي مرخياً عينيك (قاصراً نظرك على مصلاك) أي محل سجودك لو سجدت، ولو كنت تصلي في الكعبة أو خلف نبي، أو على جنازة وذلك من ابتداء التحرم إلى آخر الصلاة (فذلك أجمع لهمك) أي لقلبك (وأجدر) أي أقرب (لحضور قلبك) نعم السنة أن يقصر نظره على مسبحته ما دامت مرتفعة بعد أن يشير بها عند قوله: إلا الله في، التشهد، ولو مستورة ولتكن منحنية متوجهة للقبلة، ويستمر ذلك إلى القيام من التشهد الأول أو السلام في التشهد الأخير (وإياك أن تلتفت) بوجهك بلا حاجة (يميناً وشمالاً في صلاتك) ولو قصدت اللعب بالتفاتك بطلت صلاتك (ثم كبر للركوع وارفع يديك) مع ابتداء التكبير، ولا تدم الرفع إلى انتهائه (كما سبق) في تكبير التحرم من أنه يسن رفع اليدين فيه (ومد التكبير إلى انتهاى الركوع) إلى وصول حده لئلا يخلو جزء من الصلاة عن ذكر (ثم ضع راحتيك على ركبتيك وأصابعك منشورة) أي متفرقة وسطاً موجهة لجهة القبلة على طول الساق بأن لا تحرف شيئاً منها عن جهتها يمنة ويسرة (وانصب ركبتيك) مفرقتين بقدر شبر (ومد ظهرك وعنقك ورأسك مستوياً كالصفيحة) بالفاء ثم الحاء، أي اللوح (الواحدة) فلا يكون رأسك أخفض ولا أرفع (وجاف مرفقيك عن جنبيك) وبطنك على فخذيك (والمرأة لا تفعل ذلك بل تضم بعضها إلى بعض) فتلصق مرفقيها بجنبيها (وقل سبحان ربي العظيم) أي الكامل ذاتاً وصفة (ثلاثاً وإن كنت منفرداً فالزيادة) من الثلاث (إلى سبع وعشرين حسن) والإتيان بتسبيحة واحدة محصل للسنة لكنه مكروه (ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً وارفع يديك) مع ابتداء رفع رأسك (قائلاً: سمع الله لمن حمده) اللام زائدة للتأكيد (فإذا استويت قائماً) فأرسل يديك (فقل ربنا لك الحمد) حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه (ملء السموات وملء الأرض) وملء ما بينهما (وملء ما شئت من شيء بعد) ولا تطول الاعتدال إلا في صلاة التسبيح (وإن كنت في فريضة الصبح فاقرأ القنوت في الركعة الثانية في اعتدالك من الركوع) ويحصل القنوت بكل كلمة تضمنت دعاء وثناء، كاللهلم اغفر لي يا غفور، لكن الأفضل قنوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت" ويستحب أن يقول عقب هذا الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وسلم: هكذا في الأذكار (ثم اسجد مكبراً غير رافع اليدين) وابتدىء التكبير مع ابتداء الهوى واختمه مع ختمه (وضع أولاً على الأرض ركبتيك) مفرقتين بقدر شبر (ثم يديك) أي كفيك مكشوفتين ناشراً أصابعك مضمومة موجهة للقبلة لأنها أشرف الجهات (ثم جبهتك مكشوفة وضع أنفك) مكشوفاً (مع الجبهة) وكشف الجبهة الملتصقة بالمصلى واجب، وكشف غيرها مندوب، وكشف الركبتين مكروه، وترك الترتيب في وضع هذه الأعضاء مكروه (وجاف مرفقيك عن جنبيك وأقل) أي ارفع (بطنك عن فخذيك) لأن ذلك أبلغ في تمكين الجبهة والأنف من محل سجوده وأبعد من هيئة الكسالى (والمرأة لا تفعل ذلك) ومثلها الخنثى لأنه أستر لها وأحوط وكذلك الرجل العاري (وضع يديك على الأرض حذو منكبيك ولا تفرش) بضم الراء ويجوز كسرها (ذراعيك على الأرض) كما يفترش الكلب (وقل سبحان ربي الأعلى) والأعلى أبلغ من العظيم فجعل في السجود الذي هو أشرف من الركوع، وأبلغ منه في التواضع والخضوع (ثلاثاً أو سبعاً أو عشراً إن كنت منفرداً) وكذا إذا كنت مقتدياً وأطال الإمام السجود، لأن الصلاة لا سكوت فيها، أما لو كنت إماماً فلا تزد على الثلاث (ثم ارفع رأسك من السجود) بلا رفع ليديك (مكبراً حتى تعتدل) أي تستوي (جالساً) مطمئناً (واجلس على) كعب (رجلك اليسرى) بحيث يلي ظهرها الأرض (وانصب قدمك اليمنى وضع يديك) أي كفيك ندباً (على فخذيك) قريباً من ركبتيك بحيث تسامتهما رؤوس الأصابع (والأصابع منشورة) ولا تتكلف ضمها ولا تفريجها، ولا يضر إدامة وضع الكفين على الأرض إلى السجدة الثانية (وقل رب اغفر لي وارحمني وارزقني) أي أعطني من خزائن فضلك ما قسمته لي في الأزل حلالاً (واهدني واجبرني) أي من الذل أو أغنني (وعافني) أي ادفع عني كل ما أكره من بلاء الدنيا والآخرة (واعف عني). وفي الأذكار روى البيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجدة قال: "رَبِّ اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَارْفَعْنِي وَارْزُقْنِي وَاهْدِني". وفي رواية أبي داود: وعافني انتهى. ولا تطول هذه الجلسة إلا في صلاة التسبيح (ثم اسجد سجدة ثانية كذلك) أي كالأولى في جميع ما مر (ثم اعتدل) أي استو (جالساً) جلسة خفيفة، ولو كنت في نفل، وإن كنت قوياً (للاستراحة في كل ركعة لا تشهد عقبها) باعتبار إرادتك ولا يضر تخلف المأموم لأجل هذا الجلوس، لأنه يسير، بل إتيانه به حينئذٍ سنة، وهذا فاصل ليس من الأولى، ولا من الثانية ولا يسن هذا بعد سجود تلاوة (ثم تقوم) من السجود وقعود الاستراحة (وتضع اليدين على الأرض) معتمداً على بطن راحتهما وأصابعهما (ولا تقدم إحدى رجليك في حالة الارتفاع) أي على الأخرى (وابتدىء بتكبيرة الارتفاع عند القرب من حد جلسة الاستراحة ومدها) أي التكبيرة (إلى انتصاف ارتفاعك إلى قيامك) بأن تستغرق ما بين وسط ارتفاعك من القعود إلى وسط ارتفاعك إلى القيام بحيث يكون هاء الله عند استوائك جالساً وكاف أكبر عند اعتمادك على البدء للقيام وراء أكبر في وسط ارتفاعك إلى القيام، وتبتدىء التكبيرة في وسط ارتفاعك إلى القيام حتى تقف التكبيرة في وسط انتقالك، ولا يخلو عنها إلا طرفاه، وهو أقرب إلى التعظيم، ولا تمدها مداً يزيد على سبع ألفات، فإن ذلك مضر لأن المد لا يزيد على ذلك (ولتكن هذه الجلسة جلسة خفيفة) أي قليلة (مختطفة) أي سريعة فلا يجوز تطويلها كالجلوس بين السجدتين كما قاله ابن حجر. ثم قال عمر البصري: وتطويلها يحصل بقدر زمن يسع أقل التشهد فقط، إذ لا ذكر هنا حتى يعتبر، أو بزيادة على قدر الجلوس بين السجدتين، ولعل الحكمة في عدم مشروعية الذكر فيها كون القصد بها الاستراحة، فخفف على المصلي بعدم أمره بتحريك شيء من الأعضاء، أو كون مشروعية مد التكبير مسقطاً للذكر انتهى. ولا تسن هذه الجلسة لقاعد كما قاله ابن حجر والرملي (وصل الركعة الثانية كالأولى) أي في وضع اليدين تحت الصدر، وفي قراءة الفاتحة والسورة، وفي قصر النظر على موضع السجود (وأعد التعوذ في الابتداء) أي ابتداء القيام، لأنه يسن للقراءة ولا تعد الاستفتاح (ثم) بعد تمام السجدة الثانية (اجلس في الركعة الثانية للتشهد الأول وضع اليد اليمنى في جلوس التشهد) أي مطلقاً (على الفخذ اليمنى مقبوضة الأصابع) بعد وضعها عند الركبة أو لا منشورة (إلا المسبحة والإبهام فترسلهما) وعبارة الإحياء ولا بأس بإرسال الإبهام أيضاً (وانشر مسبحة يمناك) وحدها مع إمالتها قليلاً لئلا تخرج عن سمت القبلة (عند) همزة (قولك إلا الله لا عند) لام (قولك لا إله) قاصداً من ابتدائك بهمزة إلا الله أن المعبود واحد، فتجمع في توحيدك بين اعتقادك وقولك وفعلك (وضع اليد اليسرى منشورة الأصابع) بضمها حتى الإبهام بأن لا تفرج بينها للتوجه كلها إلى القبلة (على الفخذ اليسرى) بحيث تسامت رؤوسها أول الركبة (واجلس على) كعب (رجلك اليسرى) بعد أن تضجعها بحيث يلي ظهرها الأرض وانصب قدمك اليمنى وضع بطون أطراف أصابعها على الأرض متوجهة للقبلة، ولو كنت في الكعبة (في هذا التشهد كما بين السجدتين) وكالجلوس للاستراحة
(وفي التشهد الأخير متوركاً واستكمل الدعاء المعروف) أي المشهور بين الناس، فقوله: في التشهد الأخير، متعلق بقوله: استكمل (المأثور) أي المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) نحو: اللهمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ من عذابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المحيَا وَالمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المسيحِ الدَّجَّالِ، اللهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظلماً كَثِيراً كَبيراً، وَلا يَعْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ فاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ" (واجلس فيه) أي التشهد الأخير (على وركك الأيسر) بأن تلصقه بالأرض لأنك لست مستوفزاً للقيام، بل أنت مستقر (وضع رجلك اليسرى خارجة من تحتك) أي من جهة يمناك (وانصب القدم اليمنى) وضع رأس الإبهام إلى جهة القبلة إن لم يشق عليك، ومحل ندب التورك في الجلوس الأخير إذا لم يعقبه سجود سهو أريد فعله (ثم قل بعد الفراغ) من الأدعية التي تطلب في التشهد (السلام عليكم ورحمة الله) ولا يستحب أن تقول معه وبركاته، لأنه خلاف المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد جاء في رواية لأبي داود كذا في الأذكار تقول ذلك (مرتين من الجانبين) وافصل بينهما (والتفت) فيهما بوجهك فقط إلى الجانبين (بحيث يرى بياض) أي صورة (خديك من جانبيك) بأن تلتفت في المرة الأولى حتى يرى من ورائك خدك الأيمن، وفي المرة الثانية حتى يرى من خلفك خدك الأيسر، ولو سلمت الأولى شمالاً سلمت الثانية يميناً عند ابن قاسم وشمالاً أيضاً عند الشبراملسي، ويسن ابتداء السلام في كل مستقبلاً للقبلة، وانهاؤه مع تمام الالتفات (وانو الخروج من الصلاة) أي لقصد التحلل منها بالتسليمة الأولى، فإن نويت قبلها بطلت الصلاة ومع الثانية، أو أثناء الأولى فاتت السنة، وولو سلم المتطوع الذي نوى عدداً واقتصر على بعضه أثناء صلاته قصداً، فإن قصد التحلل فقد نوى الاقتصار على بعض ما نوى، وإن سلم عمداً ولم يقصد التحلل بطلت صلاته، فلا بد من قصد التحلل أو الاقتصار عى بعض ما نوى، وإن سلم عمداً ولم يقصد التحلل بطلت صلاته، فلا بد من قصد التحلل أو الاقتصار على أقل مما نواه، فلو نوى بالتسليمة الخروج من صلاة الظهر، وهو في العصر بطلت الصلاة إن تعمد، كذا أفاده الونائي (وانو السلام على من على جانبيك من الملائكة والمسلمين) من إنس وجن فتنوي بمرة اليمين على من على يمينك وبمرة اليسار على من على يسارك وعلى من خلفك، وأمامك بأيهما شئت والأولى أولى، ويسن الرد من غير المصلي، ولا يجب الرد لانصراف السلام للتحلل (وهذه هيئة صلاة المنفرد) وسيأتي قريباً صفة صلاة الجماعة زائدة على هذه الصفة (وعماد الصلاة الخشوع) بسكون الجوارح فلا يعبث بعضو منها، وبحضور القلب ومما يحصله استحضاره أنه بين يدي الله تعالى ملك الملوك، وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه يناجيه وأنه ربما تجلى عليه بالقهر لعدم قيامه بحق ربوبيته، فيرد عليه صلاته (وحضور القلب مع القراءة والذكر بالتفهم) أي التأمل في الجملة لا المبالغة فيه، لأنه يشغله عما هو بسلوكه في طريقه
     (وقال الحسن البصري) وهو من أكبر التابعين (رحمه الله تعالى كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع) وحكى أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء فقال: إذا دخلت الصلاة فهب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع ومن عينك الدموع فإني قريب (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ فلا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا سُدُسُها وَلا عُشْرُها، وإنَّما يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلاتِهِ بِقَدْرِ ما عَقَل) أي تدبر (منْهَا") وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي هريرة: "إِنَّ العَبْدَ إِذا صَلَّى في العَلاَنِيَةِ فَأَحْسَنَ، وَصَلَّى فِي السِّرِّ فأحْسَنَ قالَ اللَّهُ تَعَالَى: ه?ذا عَبْدِي حَقّاً" والمعنى أن العبد إذا صلى فرضاً أو نفلاً حيث يراه الناس، فأحسن الصلاة بأن أتى بما يطلب فيها، ولم يراءِ بها وصلى حيث لا يراه أحد، فأحسن الصلاة بأن أتى بأركانها وشروطها ومستحباتها من خشوع ونحوه؛ وكان واقفاً عند حدود الله ممتثلاً أوامره مجتنباً لمناهيه أثنى الله عليه، ونشر ثناءه بين الملائكة فيحبونه، ثم تقع محبته في قلوب أهل الأرض فهذا هو العبد الذي يوصف بأنه قائم على قدم الطاعة فهو العبد حقاً.

آداب الإمامة والقدوة
     بكسر القاف ويجوز ضمها كذا قاله الرشيدي كما في الصحاح وعكس ذلك في المصباح (ينبغي) أي يطلب (للإمام) آداب ثمانية الأول (أن يخفف الصلاة) أي في قراءة السورة وإن روى أنهصلى الله عليه وسلم قرأ في الظهر بطول المفصل إلى ثلاثين آية، وفي العصر بنصف ذلك، وفي المغرب بأواخر المفصل. وروي أن آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، قرأ فيها سورة والمرسلات ما صلى بعدها حتى قُبِضَ، وبالجملة فالتخفيف أولى لا سيما إذا كثر الجمع قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّى أَحَدَكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالكَبيرَ وَذَا الحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ" (قال أنسبن مالك رضي الله عنه) وكان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين (ما صلَّيْتُ خَلْفَ أحَدٍ صلاةً أخفَّ ولا أتَمَّ مِنْ صلاةِ رسول الله و) الثاني (لا يكبر) أي الإمام (ما لم يفرغ المؤذن من الإقامة وما لم تستو الصفوف) فيلتفت يميناً وشمالاً فإن رأى خللاً أمر بالتسوية، والمؤذن يؤخر الإقامة عن الأذان بقدر استعداد الناس للصلاة، لأنهصلى الله عليه وسلم نهى عن مدافعة الأخبثين وأمر بتقديم العشاء طلباً لفراغ القلب (و) الثالث (يرفع الإمام صوته بالتكبيرات ولا يرفع المأموم صوته إلا بقدر ما يسمع) بضم الياء وكسر الميم أي المأموم (نفسه وينوي الإمام الإمامة لينال الفضل) أي فضل الجماعة (فإذا لم ينو) الإمامة (صحت) صلاته منفرداً وصحت (صلاة القوم) المأمومين (إذا نووا الاقتداء به) أي بذلك الإمام (ونالوا فضل القدوة) فإن ترك المأموم هذه النية أوشك فيها، وتابعه في فعل أو سلام بعد انتظار كثير للمتابعة بطلت صلاته، لأنه وقفها على صلاة غيره بلا رابطة بينهما (و) الرابع (يسر بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد) أي وكالمأموم أيضاً (ويجهر بالفاتحة والسورة) بعدها (في جميع) ركعتي (الصبح وأولتي المغرب والعشاء وكذلك المنفرد ويجهر بقوله آمين في) الصلاة (الجهرية) أي ومثله المنفرد (وكذلك المأموم) على الصحيح، سواء كان الجمع قليلاً أو كثيراً وكذلك لقراءة إمامه لا لقراءة نفسه، ولا يسن التأمين للمأموم لقراءة الإمام في السرية، وإن جهر الإمام بذلك (ويقرن) بضم الراء على الأفصح وقد تكسر (المأموم تأمينه بتأمين الإمام معاً لا تعقيباً له) أي لا بعده ولا قبلة، وليس في الصلاة موضع يستحب أن يقترن فيه قول المأموم بقول الإمام إلا في قوله آمين، وأما في باقي الأقوال فليتأخر قول المأموم عن قول الإمام، ويجهر الإمام والمنفرد ببسم الله الرحمن الرحيم (و) الخامس (يسكت الإمام سكتة) لطيفة في السرية (عقب الفاتحة ليثوب) أي يرجع (إليه نفسه) بفتح الفاء بعد ذهابه وسكتة طويلة في الجهرية بقدر قراءة المأموم الفاتحة باعتبار الوسط المعتدل (ويقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية في هذه السكتة) للإمام، وإنما يسكت الإمام بقدر ذلك (ليتمكن من الاستماع عند قراءة الإمام) للسورة فإنه إن لم يسكت يفوتهم الاستماع، فيكون عليه ما نقص من صلاتهم ويقرؤون الفاتحة معه، لأن الحالة حالة عذر، والمقصر هو الإمام، وإن لم يقرؤوا الفاتحة في سكوته واشتغلوا بغيرها فذلك عليهم لا عليه (ولا يقرأ المأموم السورة في الجهرية) فذلك مكروه (إلا إذا لم يسمع صوت الإمام) لبعده أو صمم أو سماع صوت غير مفهوم أو أسرار إمامه، ولو في الجهرية فيقرأ ندباً سورة فأكثر إلى أن يركع الإمام، لأن الصلاة لا سكوت فيها بغير المشروع (و) السادس (لا يزيد الإمام على ثلاث في تسبيحات الركوع والسجود).
     نعم روى أن أنسبن مالك لما صلى خلف عمربن عبدالعزيز، وكان أميراً بالمدينة قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الشاب، وكنا نسبح وراءه عشراً عشراً، وذلك حسن، ولكن الثلاث إذا كثر الجمع أحسن، فإذا لم يحضر إلا المتجرّدون للدين، فلا بأس بالعشر هذا وجه الجمع بين الروايات كذا في الإحياء (و) السابع (لا يزيد في التشهد الأول بعد قوله اللهم صل على محمد) فإن الصلاة على الآل فيه لا تسن على الصحيح، فإنه مبني على التخفيف أما المأموم، فيسن له أن يشتغل بالدعاء إذا فرغ من التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإمام (و) الثامن (يقتصر) أي الإمام (في الركعتين الأخيرتين على الفاتحة) ومثله المنفرد أما المأموم، فيسن له أن يقرأ السورة في الثالثة والرابعة إذا فرغ من الفاتحة قبل الإمام إذ لا معنى لسكوته (ولا يطول) أي الإمام (على القوم) فسر ذلك بقوله (ولا يزيد دعاؤه في التشهد الأخير على قدر تشهده وصلاته على رسول الله صلى الله عليه وسلم) بل الأفضل أن يكون الدعاء أقل منهما، لأنه تبع لهما والزيادة على قدرهما تكره على الإمام ولا تضر على غيره (وينوي الإمام عند التسليم) مع نية التحلل (السلام) أي ابتداءه (على القوم) ويشترط أن لا يقصد غير السلام فقط (وينوي القوم بتسليمهم جوابه) أي الإمام أي الرد عليه زيادة على الابتداء، فينوي رد السلام منهم من على يمينه بالتسليمة الثانية، ومن على يساره بالأولى ومن خلفه بأيهما شاء، وبالأولى أفضل وينوي أيضاً بعض المأمومين الرد على بعض، وسن للمأموم أن لا يسلم الأبعد فراغ الإمام من تسليمتيه، ولو ترك السنة بأن سلم قبل سلام إمامه الثانية سن للإسلام الرد عليه (ويلبث الإمام) مكانه (ساعة بعد ما يفرغ من السلام) وفي الخبر أنهصلى الله عليه وسلم لم يكن يقعد إلا قدر قوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (ويقبل على الناس بوجهه) قال شيخ الإسلام: ولو مكث بعد الصلاة لذكر ودعاء فالأفضل جعل يمينه إليهم ويساره إلى المحراب للاتباع رواه مسلم، أي في غير مسجدهصلى الله عليه وسلم، أما فيه فيجعل يمينه إليه تأدباً معهصلى الله عليه وسلم، وعند أبي حنيفة يجعل وجهه لهم كما قاله عطية والبجيرمي (ولا يلتفت) وفي نسخة ويلبث، وهذا موافق للإحياء وفتح الوهاب (إن كان خلفه نساء لينصرفن أولاً) وسن لهن الانصراف عقب سلام الإمام لأن الاختلاط بهن مظنة الفساد (ولا يقوم أحد من القوم حتى يقوم الإمام) فقيام المأموم قبل انتقال الإمام مكروه (وينصرف الإمام) من مكان السلام إلى مكان آخر، ولو في أثناء المسجد أو من المسجد أو إلى الطريق (حيث شاء عن يمينه أو شماله واليمين أحب إلي) لأن جهة اليمين أفضل (ولا يخص الإمام نفسه بالدعاء في قنوت الصبح) فلا يقول: اللهم اهدني (بل يقول اللهم اهدنا) أي وهكذا للخبر الذي رواه الترمذي لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم، أي انتقص ثوابهم بتفويتهم ما طلب لهم، فكره ذلك، أما ما ورد من النص بإفراد الدعاء، فهو في غير القنوت فيفرد (ويجهر) أي الإمام (به) أي القنوت، ولو في السرية على الصحيح (ويؤمن القوم) بالدعاء جهراً إذا سمعوا قنوت الإمام، وإذا لم يسمعوه قنتوا سراً (ولا يرفعون أيديهم إذ لم يثبت ذلك في الأخبار) وهذا ضعيف بل الصحيح سن رفع اليدين في جميع القنوت، والصلاة والسلام بعده، وقد روي حديث في رفع اليدين في القنوت، وفارق الدعوات في آخر التشهد حيث لا يرفع بسببها اليدان، لأن لهما وظيفة في التشهد، وهو الوضع على الفخذين على هيئة مخصوصة، ولا وظيفة لهما ههنا فلا يبعد أن يكون رفع اليدين هو الوظيفة في القنوت، فإنه لائق بالدعاء كذا في الإحياء والتحفة. ولا يندب مسح اليدين بعده في الصلاة ويندب خارجها (ويقرأ المأموم بقية القنوت من قوله إنك تقضي ولا يقضى عليك) سراً وهو ثناء فلا يليق به التأمين، بل يقرأ مع الإمام فيقول مثل قوله، وهو أولى أو يقول، بل وأنا على ذلك من الشاهدين، أو يقول أشهد أو يسكت مستمعاً لإمامه، ويؤمن المأموم بعد الصلاة على النبي على المعتمد، لأنها دعاء (ولا يقف المأموم وحده) أي منفرداً عن صف من جنسه (بل يدخل في الصف) إن وجد سعة بأن كان لو دخل فيه وسعه من غير إلحاق مشقة لغيره، وإن لم تكن فيه فرجة (أو يجر إلى نفسه غيره) أي جراً بعد إحرامه لا قبل من الصف ليصطف معه خروجاً من الخلاف في بطلان الصلاة بالانفراد عن الصف. قال به الإمام أحمد وابن المنذر وابن خزيمة والحميدي.
     (واعلم) أن شروط الإمام ستة عشر: الأول التميييز، والثاني العقل، والثالث الإسلام، والرابع الذكورة فيمن أم الرجل أو الخنثى، والخامس أن يكون مكلفاً إذا كان إمام الجمعة وكان من الأربعين، والسادس عدم لزوم الإعادة في حقه كمتيمم لنحو برد ومتيمم لعدم الماء في محل يغلب فيه وجود الماء، وفاقد الطهورين، والسابع أن لا يكون هاجماً بلا اجتهاد إن احتاج إليه في الأواني أو الثياب أو القبلة، فصلاة ذلك باطلة تلزمه الإعادة، والثامن معرفة كيفية الصلاة، والتاسع أن لا يكون لاحناً لحناً يغير المعنى في الفاتحة، والعاشر أن لا يكون أخرس وإن كان المقتدى به أخرس أيضاً، والحادي عشر أن لا يكون أمياً وهو من لا يحسن الفاتحة والمأموم قارىء، والثاني عشر أن لا يكون تابعاً لغيره، والثالث عشر أن لا يكون مرتكب بدعة يكفر بها، والرابع عشر أن يكون ظاهر الأفعال للمأموم ليتمكن من متابعته، والخامس عشر اجتماع شروط الصلاة في الإمام يقيناً أو ظناً من طهارة وستر عورة واجتناب نجاسة غير معفو عنها، والسادس عشر نية الإمامة فيما تجب فيها نيتها، وهي الجمعة والمعادة والمجموعة بالمطر والمنذورة جماعة كالعيد ونحوه بأن نذر شخص أن يصلي ذلك جماعة، ثم يصلي إماماً فتجب نية الإمامة (ولا ينبغي) أي لا يليق (للمأموم أن يتقدم على الإمام في أفعاله أو يساويه) أي يقارنه في تلك (بل ينبغي) أي يطلب (أن يتأخر عنه ولا يهوي) بكسر الواو أي المأموم (للركوع إلا إذا انتهى) أي وصل (الإمام إلى حد الركوع ولا يهوي للسجود ما لم تصل جبهة الإمام إلى الأرض).
     (واعلم) أن شروط المأموم تسعة: الأول المتابعة بأن يتابع إمامه في الأفعال، فلا يسبقه بركنين فعليين، ولو غير طويلين عامداً عالماً بالتحريم، ولا يتخلف عنه بهما بلا عذر، والثاني أن ينوي الاقتداء بالإمام أو الجماعة أو الائتمام في غير الجمعة مطلقاً، وفيها مع التحرم، لأن التبعية عمل فافتقرت إلى نية، ومثل الجمعة كل ما وجبت فيه الجماعة، والثالث موافقة المأموم إمامه في سنن تفحش مخالفته فيها فعلاً وتركاً كسجدة تلاوة، والرابع تيقن تقدم إحرام إمامه على جميع تحرمه، والخامس أن يكون عالماً بانتقالات الإمام ليتمكن من متابعته، والسادس أن لا يكون سابقاً إمامه فيما اعتمد عليه، والسابع أن لا يعتقد بطلان صلاة إمامه، ولو شك الشافعي في إتيان المخالف كحنفي بالواجبات عند المأموم لم يؤثر في صحة الاقتداء به تحسيناً للظن به في توقي الخلاف، ولو علم ترك الإمام البسملة لم تصح قدوة الشافعي به، ولو كان الإمام المقتدي به إماماً أعظم كما قاله محمد السمانودي، والثامن اجتماع الإمام والمأموم في الموقف، والتاسع توافق نظم صلاتي الإمام والمأموم في الأفعال الظاهرة.

آداب الجمعة
     بضم الميم وهي لغة الحجاز وبفتحها وهي لغة تميم والسكون لغة عقيل، وهذه اللغات إذا كان المراد بالجمعة اليوم، أما إذا أريد بها الأسبوع فبالسكون لا غير، كما إذا قلت صمت جمعة، أي أسبوعاً (اعلم أن الجمعة عيد) من أعياد (المؤمنين) وهي أفضل الصلوات ويومها أفضل أيام الأسبوع، وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى، أما يوم عرفة فهو أفضل منها خلافاً للإمام أحمد (وهو يوم شريف خص الله عز وجل به هذه الأمة) المحمدية، وفي الخبر أن لله عز وجل في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ وَوُقِّيَ فِتْنَةَ القَبْرِ" (وفيه) أي في يوم الجمعة (ساعة مبهمة) أي أخفاها الله تعالى فيه (لا يوافقها) أي لا يصادفها (عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها) أي في تلك الساعة (حاجة) من حوائج الدين والدنيا (إلا أعطاه) الله تعالى (إياها) أي الحاجة حالاً بعين المسؤول قال بعضهم ساعة الإجابة في آخر النهار، لأن الله تعالى خلق آدم عليه السلام بعد العصر في يوم الجمعة، ولأن اليمين تغلظ بعد عصر الجمعة، وقال القاضي عياض: ساعة الإجابة مختطفة، أي يسيرة منحصرة فيما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى سلامه من الصلاة، أي لا تخرج عن هذا الوقت، وليس المراد أنها مستغرقة لما بين الجلوس، وآخر الصلاة لأنها لحظة لطيفة.
     ثم ذكر المصنف من آداب الجمعة هنا سبعة:
     الأول: مذكور بقوله (فاستعد لها) أي الجمعة (من يوم الخميس بتنظيف الثياب) واستعداد الطيب إن لم يكن عندك (وبكثرة التسبيح والاستغفار) أي والدعاء (عشية الخميس) أي بعد العصر في ذلك اليوم (فإنها ساعة توازي) تقابل (في الفضل ساعة) الإجابة المبهمة في (يوم الجمعة) قال بعض السلف: إن لله تعالى فضلاً سوى أرزاق العباد لا يعطي من ذلك الفضل إلا من سأله عشية الخميس ويوم الجمعة (وانو صوم الجمعة لكن مع الخميس أو السبت إذ جاء في إفرادها) أي يوم الجمعة بالصوم (نهي) قال صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَصُمْ أَحَدٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلاَّ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ" رواه الشيخان. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاَّ فيما افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ".
     والثاني: مذكور بقوله (فإذا طلع عليك الصبح فاغتسل) فإن وقت غسل الجمعة يدخل بذلك، فإن لم تبكر إلى المسجد فتقريبه إلى ذهابك أفضل لتكون أقرب عهداً بالنظافة (فإن غسل الجمعة واجب على كل محتلم أي) أمر (ثابت مؤكد) على كل من بلغ مبالغ الرجال، وإنما لم يجب الغسل للخبر الذي رواه أبو داود وغيره، من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل قوله فيها، أي فبالطريقة عمل ونعمت الطريقة هو الوضوء،
     والثالث: مذكور بقوله (ثم تزين بالثياب البيض) وهي أفضل الثياب في كل زمن حيث لا عذر كما قال المصنف (فإنها أحب الثياب إلى الله تعالى) لقولهصلى الله عليه وسلم: "أَلْبِسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ البيَاضَ فإِنَّها مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيها مَوْتاكُمْ" رواه الترمذي. (واستعمل من الطيب أطيب ما عندك) سوى الزباد لأنه طيب النساء مع كون أحمد يقول: بنجاسته لتغلب به الروائح الكريهة، ويوصل به الرائحة إلى مشام الحاضرين في جواره، وأحب طيب الرجال ما ظهر ريحه، وخفى لونه وطيب النساء ما ظهر لونه وخفى ريحه (وبالغ في تنظيف بدنك بالحلق) لنحو إبط وعانة إذا لم ترد التضحية في عشر ذي الحجة، أما حلق الرأس فمباح إلا إن تأذى ببقاء شعره أو شق عليه تعهده فيندب (والقص) أي لشاربه حتى تبدو حمرة الشفة ويكره استئصاله (والتقليم) أي للأظفار، والأفضل في التقليم لليدين أن يبدأ في اليمنى بالسبابة إلى الخنصر ولاء ويختم بإبهامها، وفي اليسرى يبدأ بالخنصر ويختم بالإبهام على التوالي، وفي الرجلين أن يبدأ من خنصر اليمنى إلى خنصر اليسرى على الولاء (والسواك وسائر أنواع النظافة وتطييب الرائحة) وهو بالمسك أفضل إلا إن كنت محرماً، فيجب الترك أو صائماً فيكره لك الطيب قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله، أي فهمه.
    والرابع: مذكور بقوله (ثم بكر إلى الجامع) ويدخل وقت البكور بطلوع الفجر وهو مندوب لغير إمام وخطيب ومعذور، كمن به سلس بول ولو بالقصد من فرسخين، وثلاث لمن عادتهم الجلوس في المسجد، أما الإمام فيسن له التأخير إلى وقت الخطبة (واسع) أي امض واحضر (إليه) أي الجامع وفي نسخة إليها أي الجمعة (على الهينة) بكسر الهاء أي الرفق (والسكينة) أي التأني في المشي والحركات واجتناب العبث، وحسن الهيئة كغض البصر وخفض الصوت، وعدم الالتفات. نعم إن لم يدرك الجمعة إلا بالسعي وقد أطاقه وجب، وإن لم يلق به (فقد قال صلى الله عليه وسلم: من راح إلى الجمعة) أي ودخل في المسجد (في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) أي واحداً من الإبل (ومن راح) أي جاء المسجد (في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) وهي تقع على الذكر والأنثى وتاؤها للوحدة كالبدنة (ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً) وهو ذكر النعجة (أقرن) أي عظم القرون (ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب) وفي نسخة أهدى (دجاجة) بتثليث الدال كما قاله البجيرمي والفتح أفصح من الكسر، ولم يذكر الضم في الصحاح، ولا في المصباح والدجاجة للذكر والأنثى والتاء للوحدة (ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب) ونسخة أهدى (بينة فإذا خرج الإمام) أي لصعود المنبر من نحو الخلوة (طويت الصحف ورفعت الأقلام) أي فلا تكتب الملائكة أحداً من حاضري الجمعة (واجتمعت الملائكة عند المنبر يستمعون الذكر) أي الخطبة، وفي رواية في الرابعة بطة، وفي الخامسة دجاجة وفي رواية للنسائي، وفي الخامسة كالذي يهدي عصفوراً، وفي السادسة بيضة، قال ابن حجر: والمراد أن ما بين الفجر وخروج الخطيب ينقسم ستة أجزاء متساوية، سواء أطال اليوم أم قصر (ويقال إن الناس) يكونون (في قربهم عند النظر إلى وجه الله تعالى على قدر بكورهم إلى الجمعة) قال صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثٌ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما فِيهِنَّ لَرَكَّضُوا الإبلَ في طَلِبَهِنَّ: الأَذَانُ، وَالصَّفُّ الأوَّلُ، والغُدُوُّ إلى الجُمُعَةِ" وقال أحمدبن حنبل: أفضلهن الغدو إلى الجمعة، وفي الخبر إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم، والخامس: مذكور بقوله (ثم إذا دخلت الجامع فاطلب الصف الأول) فإن فضله كثير هذا إذا لم يكن بقرب الخطيب منكر، ولم يحصل تخطي رقاب الناس. قال سعيدبن عامر صليت إلى جنب أبي الدرداء، فجعل يتأخر في الصفوف حتى كنا في آخر صف، فلما صليت قلت: أليس يقال خير الصفوف أولها؟ قال: نعم إلا أن هذه الأمة مرحومة منظور إليها من بين الأمم، فإن الله تعالى إذا نظر إلى عبد في الصلاة غفر له، ولمن وراءه من الناس، فإنما تأخرت رجاء أن يغفر لي بواحد منهم، ينظر الله إليه، فمن تأخر من الصف الأول مثلاً على هذه النية إيثاراً للغير وإظهاراً لحسن الخلق، فهو أولى فإنما الأعمال بالنيات، والسادس: مذكور بقوله (فإذا اجتمع الناس فلا تتخط رقابهم) والمراد بالتخطي أن يرفع رجله بحيث يحاذي في تخطيه أعلى منكب الجالس، وما يقع من المرور بين الناس ليصل إلى نحو الصف الأول مثلاً ليس من التخطي، بل من خرق الصفوف إن لم يكن، ثم فرج في الصفوف يمشي فيها، وذلك لا يضر، والتخطي مكروه كراهة شديدة، لأنهصلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: اجلس فقد آذيت وآنيت، أي فقد آذيت الناس بتخطيك، وأخرت المجيء وأبطأت، ولم يحمل هذا النهي على الحرمة، لأن الإيذاء هنا لغرض كما أفاده البجيرمي، والسابع: مذكور بقوله (ولا تمر بين أيديهم وهم يصلون) قال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ المارُّ بيْنَ يَدَي المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بيْنَ يَدَيْهِ" (واجلس بقرب حائط) أي جدار (أو أسطوانة) بضم الهمزة أي عمود (حتى) للتعليل أي كي (لا يمروا بين يديك) أي إذا صليت وفي بعض النسخ وحتى لا يمر بين يديك أحد، فإن لم تجد أسطوانة فلتنصب بين يديك شيئاً طوله قدر ذراع ليكون ذلك علامة لحدك (ولا تقعد حتى تصلي التحية والأحسن) وفي نسخة وحسن أي مندوب كما قاله الفاكهي (أن تصلي أربع ركعات) أي بتسليمة واحدة لأن التحية لا تكون إلا بتسليمة، ولو مائة ركعة كما قاله الفشني (تقرأ كل ركعة بعد الفاتحة) سورة (الإخلاص خمسين مرة) فجملة سورة الإخلاص في الأربع ركعات مائتا مرة (ففي الخبر أن من فعل ذلك لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له ولا تترك التحية وإن كان الإمام يخطب) لكن عليك حينئذٍ بالتخفيف أي بترك التطويل عرفاً، وقيل بالاقتصار على الواجبات، ولا يزد حينئذٍ على ركعتين فإن ذلك لا يجوز، كما لا تباح لأحد من الحاضرين صلاة غير تحية بعد جلوس خطيب، وإن لم يسمع الخطيب، ولو دخل المسجد في آخر الخطبة، فإن غلب على ظنه أنه إن صلى ركعتين خفيفتين فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم تندب له التحية، بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد لئلا يكون جالساً في المسجد قبل التحية (ومن السنة أن تقرأ في أربع ركعات سورة الأنعام والكهف وطه ويس) وفي الإحياء استحباب هذه الصلاة مع هذه السور في هذا اليوم أو في ليلته (فإن لم تقدر فسورة يس والدخان وألم السجدة وسورة الملك ولا تدع) أي لا تترك (قراءة هذه السور) أي الأربع كما في الإحياء (في ليلة الجمعة ففيها فضل كثير) قيل من تلا سورة الأنعام يكون متوجهاً لحفظ الدين وحسن الرزق، ويرزق الحظ في دنياه وآخرته. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ أو يَوْمَ الجُمُعَةِ أُعْطِيَ نُوراً مِنْ حَيْثُ يَقْرؤُها إلى مَكَّةَ، وَغُفِرَ لَهُ إلى الجُمُعَةِ الأخْرَى، وَفَضْلَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَعُوفِيَ مِنَ الدَّاءِ وَالدَّبيلةِ وَذَاتِ الجَنْبِ وَالجذَامِ وَالْبَرَصِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ" وَالدَّبيلة داء في جوف البطن، أو داء أشد حراً في البطن، أو في القلب وعن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَقْرأ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنَ القُرْآنِ إلاَّ يس وَطَه". وِقِيلَ: متى قرأ سورة طه يحب صلاة الليل ويفعل الخير، ويحب العشرة في أهل الدين، ومن تلا سورة يس يكون دينه قوياً.
     وعن أبيبن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الم تَنْزِيلُ أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كَمَنْ أحْيَا لَيْلَةَ القَدْرِ" قيل: من تلا سورة السجدة يكون قوي التوحيد سالم اليقين. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ حم الدَّخَان لَيلَةَ الجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَنى اللَّهُ لَهُ بيْتاً فِي الجَنَّةِ" وقيل: من تلا سورة الملك أعطاه الله خيري الدنيا والآخرة، وتكثر أملاكه وخيراته (ومن لم يحسن ذلك) قرأ ما يحسن (فليكثر من قراءة سورة الإخلاص وأكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم) أي وليلته (خاصة) وأكثر قراءة سورة الكهف قال الونائي وأقل إكثار الصلاة على النبي ثلاثمائة بالليل وثلاثمائة بالنهار، وأقل إكثار سورة الكهف ثلاث مرات، وقراءتها نهاراً آكد وأولاه بعد الصبح (ومهما خرج الإمام) من نحو خلوة لصعود المنبر (فاقطع الصلاة والكلام واشتغل بجواب المؤذن ثم باستماع الخطبة والاتعاظ بها) وقال الونائي: ويجب على كل من كان في صلاة تخفيفها عند صعود الخطيب المنبر وجلوسه عليه، فإطالتها كإنشائها اهـ. لكن إنشاء الصلاة قبل جلوسه وبعد شروعه في الصعود لا يحرم، أما بعد جلوسه فيحرم ولا تنعقد الصلاة مطلقاً، ما عدا ركعتي التحية إجماعاً كما في حاشية الإقناع (ودع الكلام رأساً) أي بالكلية (في) وقت (الخطبة ففي الخبر أن من قال لصاحبه والإمام يخطب: انصت أو صه فقد لغا) قوله أوصه شك من الراوي وهو بمعنى اسكت (ومن لغا فلا جمعة له أي لأن قوله أنصت كلام فينبغي أن ينهي غيره بالإشارة) أي المفهمة (لا باللفظ) والجديد لا يحرم الكلام في وقت الخطبة، بل يكره والإنصات لها سنة، والمراد باللغو في الخبر المشهور مخالفة السنة كما أفاده ابن حجر، وأن المنفي بقوله فلا جمعة له كمال الجمعة لا صحتها، نعم لو كان من الحاضرين أربعون تلزمهم الجمعة فقط حرم على بعضهم كلام فوته سماع ركن، لتسببه في إبطال الجمعة، والقديم يحرم الكلام في ذلك الوقت كالأئمة الثلاثة، ويجب الإنصات قال البجيرمي، ولا يكره الكلام قبل الخطبة وبعدها وبين الخطبتين، ولو بغير حاجة (ثم اقتد بالإمام كما سبق) أي في آداب الجمعة فإاذ سمعت قراءة الإمام فلا تقرأ غير الفاتحة (فإذا فرغت) أي من صلاة الجمعة (وسلمت) منها (فاقرأ الفاتحة قبل أن تتكلم سبع مرات والإخلاص سبعاً والمعوذتين سبعاً سبعاً فذلك) أي المذكور من السور (يعصمك) أي يمنعك من السوء (من الجمعة إلى الجمعة ويكون حرزاً) أي وقاية (لك من الشيطان) كما رواه ابن السني من حديث عائشة عن رسول الله لكن بدون الفاتحة.
     وروى الحافظ المنذري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَرَأَ إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يُثْنِي رِجْلَهُ فَاتِحَةَ الكِتَابِ وَقُلْ هُو الله أَحَدُ وَالمُعَوِّذَتَيْنِ سَبْعاً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَأُعطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالله وَرَسُولِهِ". (وقل) أربع مرات كما نقل عن الدميري عن أبي طالب (بعد ذلك) أي بعد سلام الجمعة كما في الإحياء، وكما نقله عن أبي طالب المكي (اللهم) أي ياالله (يا غني) أي من لا يفتقر إلى شيء (ياحميد) أي مستحق الثناء (يا مبدىء) أي مظهر الشيء من العدم إلى الوجود (يامعيد) أي خالق الشيء بعد عدمه (يارحيم) أي مريد الأنعام (يا ودود) أي من يحب الخير لجميع الخلائق (أغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك) يقال: من داوم على هذا الدعاء أغناه الله عن خلقه، ورزقه من حيث لا يحتسب (ثم صل بعد الجمعة ركعتين) كما رواه ابن عمر (أو أربعاً) كما رواه أبو هريرة (أو ستاً) كما رواه علي وعبداللهبن عباس (مثنى مثنى) وهذه الكلمة لم تذكر في الإحياء (فكل ذلك) أي المذكور من الركعتين والأربع والست (مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحوال مختلفة) كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّياً بَعْدَ الجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعاً" وفي رواية رواها مسلم: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعاً". قال البركوي في معنى هذا الحديث: من كان منكم أيها المكلفون بأداء الجمعة مريداً لأن يصلي بعد أداء فريضة الجمعة، فليصل أربع ركعات بتسليمة، ودل هذا الحديث على أن المؤكدة من هذه الستة بعد صلاة الجمعة أربع ركعات، كما قال به أبو حنيفة ومحمد وعليه الشافعي في قول، وعند أبي يوسف السنة المؤكدة بعد الجمعة ست ركعات: أربع ركعات سنة الجمعة، وثنتان سنة الوقت، والأفضل أن يصلي أربعاً، ثم ركعتين انتهى. وعلى هذا فالركعتان الزائدتان على الأربعة من النوافل المؤقتة لا من النوافل المطلقة (ثم لازم المسجد إلى المغرب) وهو الأفضل (أو إلى العصر) يقال: من صلى العصر في الجامع كان له ثواب الحج، ومن صلى المغرب فله ثواب حجة وعمرة، فإن خاف دخول الآفة عليه من نظر الخلق إلى اعتكافه أو خاف الخوض فيما لا يليق، فالأفضل أن يرجع إلى بيته ذاكر الله مفكراً في آلائه شاكراً لله تعالى على توفيقه، خائفاً من تقصيره، مراقباً لقلبه ولسانه إلى غروب الشمس حتى لا تفوته الساعة الشريفة، ولا ينبغي أن يتكلم في الجامع وغيره من المساجد بحديث الدنيا (وكن حسن المراقبة) أي المرصاد (للساعة الشريفة فإنها مبهمة في جميع اليوم) أي يوم الجمعة (فعساك أن تدركها وأنت خاشع لله تعالى) أي مقبل إليه تعالى بقلبك (متذلل) أي خاضع (متضرع) أي مخلص الدعاء (ولا تحضر في الجامع مجالس الحلق) بكسر الحاء المهملة وفتح اللام أو بفتحهما على غير قياس جمع حلقة بفتح الحاء وسكون اللام. وروى عبداللهبن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة إلا أن يكون فيه عالم بالله يذكر بأيام الله، ويفقه في دين الله يتكلم في الجامع بالغداة، فيجلس إليه ليكون جامعاً بين البكور وبين الاستماع، واستماع النافع في الآخرة أفضل من اشتغاله بالنوافل (ولا) تحضر في الجامع (مجالس القصاص) فلا خير في كلامهم (بل) احضر (مجلس العلم النافع) بكرة أو بعد العصر (وهو الذي يزيد في خوفك من الله تعالى وينقص من رغبتك في الدنيا) فقد روى أبو ذر أن حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة (فكل علم لا يدعوك من الدنيا إلى الآخرة فالجهل أعود) أي أنفع (عليك منه) أي من ذلك العلم (فاستعذ بالله من علم لا ينفع) وقل: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ونفس لا تشبع، وعمل لا يرفع، ودعاء لا يسمع (وأكثر الدعاء عند طلوع الشمس وعند الزوال وعند الغروب وعند الإقامة وعند صعود الخطيب المنبر وعند قيام الناس إلى الصلاة) فلا ينبغي أن تخلو في جميع يوم الجمعة عن الخيرات والدعوات حتى توافيك الساعة الشريفة وأنت في خير، ولا بأس أن تدعو بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك فقهاً في الدين، وزيادة في العلم وكفاية في الرزق، وعافية وصحة في البدن وتوبة قبل الموت، وراحة عند الموت، ومغفرة بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم يا أرحم الراحمين، ويا خير المسؤولين (فيوشك أن تكون الساعة الشريفة في بعض هذه الأوقات)
     فالعلماء اختلفوا فيها على أقوال فقيل: أخفاها الله تعالى في اليوم. وقيل: هي أول النهار. وقيل في آخره، وهو قول الأكثرين. قال النووي: والصواب ما ثبت في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هِيَ ما بيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإمامُ عَلَى المِنْبَرِ إلى أَنْ يُسَلِّمَ مِنَ الصَّلاةِ" وظاهر هذا الحديث أنه يطلب الدعاء حال التلبس بالخطبة، وهو مشكل بالأمر بالإنصات حال الخطبة، وأجاب البلقيني عن هذا الإشكال بأنه ليس من شروط الدعاء التلفظ، بل استحضار ذلك بقلبه كافٍ في ذلك. وقال الحليمي: إن الدعاء يكون إذا جلس الإمام قبل أن يفتتح الخطبة، أو بين الخطبتين أو بين الخطبة الثانية والصلاة، أو في الصلاة بعد التشهد. وما قاله الحليمي أظهر، كذا نقله البجيرمي عن الأجهوري (واجتهد أن تتصدق في هذا اليوم بما تقدر عليه وإن قل) فإن الصدقة فيه تتضاعف (فتجمع بين الصلاة والصوم والصدقة والقراءة والذكر والاعتكاف والرباط) أي انتظار الصلاة بعد الصلاة، أي إذا أتيت بجميع المذكور. وقال بعض السلف: من أطعم مسكيناً يوم الجمعة ثم غدا وابتكر، ولم يؤاخذ أحداً، ثم قال حين يسلم الإمام: بسم الله الرحمن الرحيم الحي القيوم، أسألك أن تغفر لي وترحمني وتعافيني من النار، ثم دعا بما بدا له استجيب له (واجعل هذا اليوم من الأسبوع) بضم الهمزة (خاصة لآخرتك) فكف فيه عن جميع أشغال الدنيا وأكثر فيه الأوراد (فعساه أن يكون) أي هذا اليوم (كفارة لبقية الأسبوع) وبالجملة بنبغي أن يزيد مريد الوصول إلى الله تعالى في أوراده، وأنواع خيراته، فإن الله تعالى إذا أحب عبداً استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال، وإذا مقته استعمله في الأوقات الفاضلة بسيىء الأعمال، ليكون أوجع في عقابه، وأشد لمقته لحرمانه بركة الوقت وانتهاكه حرمته.

آداب الصيام
     وهو لجام المتقين ورياض الأبرار والمقربين (لا ينبغي) أي لا يليق (أن تقتصر على صوم شهر رمضان فترك التجارة بالنوافل وكسب الدرجات العالية في الفراديس) جمع فردوس وهي أعلى الجنة وأوسطها وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر (فتنحسر) بالحاء المهملة أي فتتلهف (إذا نظرت إلى منازل الصائمين كما تنظر إلى الكواكب الدرية) بتثليث الدال أي المضيئة (وهم في أعلى عليين) وفي الخبر أن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم الجمعة لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد. وفيه أيضاً أن في الجنة باباً يقال له الضحى، فإذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ: أين الذين كانوا يديمون صلاة الضحى، هذا بابكم فادخلوه وفيه أيضاً في الجنة باب يقال له: الفرح لا يدخل منه إلا مفرح الصبيان.
   والحاصل أن كل من أكثر نوعاً من العبادة خص بباب يناسبه ينادي منه جزاء وفاقاً، وكل من يجتمع له العمل بجميع أنواع الطاعات يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم، والدخول لا يكون إلا من باب واحد، وهو باب العلم الذي يكون غلب عليه.
     واعلم أن استحباب الصوم يتأكد في الأيام الفاضلة، وفواضل الأيام بعضها يوجد في كل سنة، وبعضها يوجد في كل شهر وبعضها في كل أسبوع (و) أما (الأيام الفاضلة التي) توجد في كل سنة التي (شهدت الأخبار بشرفها وفضلها بجزالة الثواب) أي كثرته (في صيامها) بعد أيام رمضان فهو (يوم عرفة) وهو تاسع ذي الحجة فيسن صومه (لغير الحاج) وأما الحاج فيسن له فطره وصومه خلاف الأولى إن كان يصل عرفة نهاراً فإن كان يصلها ليلة التاسع فلا كراهة ولا خلاف الأولى، وهو أفضل الأيام. لأن صومه يكفر سنتين من الصغائر (ويوم عاشوراء) بالمد وقد يقصر، وهو عاشر المحرم فإن صومه يكفر السنة الماضية (والعشر الأول من ذي الحجة) وفي الخبر ما من أيام العمل فيهن أفضل وأحب إلى الله عز وجل من أيام عشر ذي الحجة أن صوم يوم منه يعدل صيام سنة، وقيام ليلة منه يعدل قيام ليلة القدر (والعشر الأول من المحرم) وفي الخبر أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، أي وذلك بالنسبة لغير عرفة، وبالنسبة لغير صلاة الرواتب (ورجب وشعبان) وكره بعض الصحابة أن يصام رجب كله حتى لا يضاهي بشهر رمضان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر صوم شعبان حتى يظن أنه في رمضان، وفي الخبر إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى رمضان (وصوم الأشهر الحرم من الفضائل) لأنها أوقات فاضلة (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب واحد فرد) وهو رجب (وثلاثة سرد) أي متتابعة وهو الباقي (وهذه) الأيام الفاضلة (في السنة) وأفضلها للصوم بعد رمضان المحرم، ثم رجب ثم الحجة ثم القعدة ثم شعبان، ونظم البجيرمي ترتيب الأفضلية في الشهور من بحر الرجز فقال:
وَأَفْضَلُ الشُّهُورِ بالإطْلاقِ >< شَهْرُ الصِّيَامِ فَهْوَ ذو السِّبَاقِ
فَشَهْرُ رَبِّنا هُوَ المُحَرَّمُ >< فَرَجَبٌ فَالحِجَّةُ المُعَظَّمُ
فَقِعْدَةٌ فَبَعْدَهُ شَعْبَانُ >< وَكُلُّ ذا جَاءَ بهِ البيَانُ
     (وأما) الأيام الفاضلة التي تكرر (في الشهر فأول الشهر وأوسطه وآخره) قال ابن حجر: ويسن صوم أيام السود خوفاً من ظلمة الذنوب، وهي السابع أو الثامن وتالياه فإن بدأ بالثامن ونقص الشهر صام أول تاليه، وحينئذٍ يقع صومه عن أول الشهر أيضاً، فإنه يسن صوم ثلاثة أول كل شهر (والأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر) وفي ذي الحجة يبدل الثالث عشر بالسادس عشر أو بيوم بعده (وأما) الأيام الفاضلة (في الأسبوع فيوم الاثنين والخميس والجمعة) فيستحب فيها الصيام وتكثير الخيرات لتضاعف أجورها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صوم الاثنين والخميس وقال: "إنَّهُمَا يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأعْمَالُ فَأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأنا صَائِمٌ" أي تعرض على الله فيهما أعمال الأسبوع إجمالاً، فأحب أن يعرض عملي وأنا قريب من زمن الصوم، لأن العرض بعد الغروب، وفائدة العرض إظهار العدل وإقامة الحجة إذ لا يخفى على الله شيء، وتعرض الأعمال على الأبناء والآباء والأمهات يوم الجمعة، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم سائر الأيام، وتعرض على الله أعمال العالم إجمالاً ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، وأما عرضها تفصيلاً فبرفع الملائكة لها بالليل مرة، وبالنهار مرة، ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم بلا سبب بأن كان نفلاً مطلقاً، وإنما نهى عن صومه مفرداً، لأنه يوم عبادة وتبكير وذكر وغسل واجتماع، فيسن فطره معاونة عليها كما نقله البجيرمي عن النووي، وفي الخبر الذي رواه البيهقي والحاكم أن يوم الجمعة يوم عيد وذكر، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، ولكن اجعلوه يوم فطر وذكر إلا أن تخلطوه بأيام (فتكفر ذنوب الأسبوع بصوم الاثنين والخميس والجمعة وتكفر ذنوب الشهر باليوم الأول من الشهر واليوم الأوسط واليوم الآخر والأيام) الثلاثة (البيض وتكفر ذنوب السنة بصيام هذه الأيام) أي المذكورة (و) صيام (الأشهر المذكورة) أي التي تتكر في السنة وسكت المصنف عن صوم ستة من شوال، فإنه يطلب صوم ستة أيام من شوال، وإن لم يعلم بها أو نفلها أو صامها عن نذر أو نفل آخر أو قضاء عن رمضان أو غيره نعم. لو صام شوالاً قضاء عن رمضان وقصد تأخيرها عنه، لم تحصل معه فيصومها من القعدة. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَال كَانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ" أي من صام رمضان في كل سنة وأتبعه ستاً من شوال كذلك، كان كصيام الدهر، أي السنة فرضاً بلا مضاعفة، وأما من صام شهراً وستة غيرها كل سنة يكون كصيام الدهر نفلاً بلا مضاعفة.
     (تنبيه) قد يوجد للصوم سببان: كوقوع عرفة وعاشوراء يوم اثنين أو خميس، وكوقوعهما في ستة شوال فيتأكد صوم ماله سببان رعاية لكل منهما، فإن نواهما حصلا كالصدقة على القريب صدقة وصلة، وكذا لو نوى أحدهما كما أفاد ذلك كله البجيرمي (ولا تظن) أيها المكلف (إذا صمت أن الصوم هو) كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة وهو (ترك الطعام والشراب والوقاع فقط فقد قال صلى الله عليه وسلم: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) أي بسبب عدم كف الجوارح عن المكاره وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" أي في صِيَامِهِ (بل تمام الصوم بكف الجوارح كلها) من السمع والبصر واللسان واليد والرجل وغيرهما (عما يكره الله تعالى) من الآثام وذلك صوم الصالحين المسمى صوم الخصوص، فيكون تمام الصيام بخمسة أمور: الأول مذكور بقوله (بل ينبغي أن تحفظ العين عن) الاتساع في (النظر إلى المكاره) وإلى كل ما يشغل القلب عن ذكر الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم: "النَّظَرَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ فَمَنْ تَرَكَهُ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ آتاهُ اللَّهُ إيماناً يَجِدُ حَلاَوَتَهُ فِي قَلْبِهِ" والثاني مذكور بقوله: (واللسان عن النطق بما لا يعنيك) بفتح الياء وسكون العين، أي لا يهمك والذي يهم الإنسان ما يتعلق بسلامته في المعاد، وبضرورة حياته في معاشه فيما يشبعه من جوع، ويرويه من عطش ويستر عورته، ويعف فرجه ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون ما فيه تلذذ واستمتاع، والثالث مذكور بقوله (والأذن عن الاستماع إلى ما حرمه الله تعالى فإن المستمع شريك للقائل) لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله تعالى بين السمع وأكل السحت فقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة:42) (وهو أحد المغتابين) لأن السكوت على الغيبة حرام قال الله تعالى {إِنَّكُم إذاً مِثْلُهُمْ} (النساء:140 ) وقال صلى الله عليه وسلم: "المُغْتَابُ وَالمُسْتَمِعُ شَرِيكانِ في الإثْمِ" (وكذلك تكف جميع الجوارح) عن كل ما يذم شرعاً (كما تكف البطن والفرج) عن قضاء شهوتهما (ففي الخبر) الذي رواه جابر عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس يفطرن الصائم الكذب والغيبة) بكسر الغين (والنميمة) وهي السعي بين الناس بالإفساد (واليمين الكاذبة) وهو المسمى باليمين الغموس (والنظر بشهوة) أي إلى محرم، وقوله يفطرن بتشديد الطاء، أي المذكورات أي يبطلن الصوم حقيقة على ما ذهبت إليه السيدة عائشة والإمام أحمد، ومذهب الشافعي وأصحابه أن هذه تبطل ثواب الصوم لا نفس الصوم، ومعنى يفطرن الصائم، يذهبن ثواب الصائم كما يذهب الفطر في النهار الصيام، وروى أبو الفتح الأزدي والديلمي عن أنس بإسناد فيه كذاب هذا الخبر: خمس خصال يفطرن الصائم، وينقضن الوضوء: الكذب، والغيبة والنميمة، والنظر بشهوة، واليمين الكاذبة، وهذا ورد على طريق الزجر عن فعل المذكورات، وليس المراد الحقيقة كذا أفاده العزيزي
     (وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّما الصَّوْمُ جُنَّةٌ) بضم الجيم وتشديد النون، أي وقاية قيل من المعاصي لكونه يكسر الشهوات ويضعفها، وقيل: من النار، لأنه إمساك عن الشهوات (فإذا كانَ أحَدُكُمْ صَائماً فَلا يَرْفُثْ) بالمثلثة وتثليث الفاء، أي لا يفحش الصائم في الكلام (ولا يَفْسُقْ) أي لا يخرج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات (وَلا يَجْهَلْ) أي لا يفعل فعل الجهال كالصياح والسخرية أو سفه على أحد (فإن امْرُؤٌ قَاتَلَهُ) أي أراد مقاتلته (أوْ شَاتَمَهُ فَلْيقُلْ) بقلبه إن كان صيامه نفلاً، وبلسانه وبقلبه إن كان في رمضان كذا أفاده العزيزي (إنِّي صَائِمٌ) مرتين أو ثلاثاً ليكف نفسه عن المقاتلة والمشاتمة. كذا أفاده العزيزي، والرابع مذكور بقوله (ثم اجتهد أن تفطر على طعام حلال) فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال إذا أفطر بالطعام الحرام، فهو مثل من يبني قصراً ويهدم مصراً، والخامس مذكور بقوله (ولا تستكثر) أي من الطعام الحلال وقت الإفطار (فتزيد) في الأكل لأجل صيامك (على ما تأكله كل ليلة) أي في غير أيام الصيام (فلا فرق) بين كونك مفطراً وكونك صائماً (إذا استوفيت) أي أديت (ما تعتاد أن تأكله دفعتين) بفتح الدال أي مرتين مرة في النهار، ومرة في الليل (في دفعة واحدة) وقت الإفطار (وإنما المقصود بالصيام كسر شهوتك وتضعيف قوتك) أي عن المعاصي (لتقوى بها) أي بقوتك (على التقوى) لله تعالى (فإذا أكلت عشية) أي بعد الغروب (ما) أي طعاماً (تداركت به ما فاتك ضحوة) بأن جمعت ما كنت تأكل ضحوة إلى ما كنت تأكل ليلاً (فلا فائدة في صومك) أي فلا تنتفع بصومك في كسر الشهوة، وهذا جواب إذا، أي إن من آداب الصوم أن لا تشبع الشبع الكامل قط لا سيما في ليالي رمضان فإن الأولى النقص فيها عن مقدار ما كنت تأكله في غيرها، وذلك لأنه شهر الجوع ومن شبع في عشائه وسحوره، فكأنه لم يصم رمضان وحكمه حكم المفطر من حيث الأثر المشروع له الصوم، وهو أضعاف الشهوة المضيقة لمجاري الشيطان في البدن، وهذا الأمر بعيد على من شبع من اللحم والمرق إلا إذا كان من يصوم شخصاً يتعاطى في النهار الأعمال الشاقة، أو امرأة مرضعة، فإن ذلك لا يضره إن شاء الله تعالى، وقد قالوا: من أحكم الجوع في رمضان حفظ من الشيطان إلى رمضان الآتي، لأن الصوم جنة على بدن الصائم ما لم يخرقه شيء، فإذا خرقه دخل الشيطان له من الخرق، كذا نقله البجيرمي عن الشعراني (وقد ثقلت عليك معدتك) بسبب تداركك عند فطرك ما فاتك من الطعام ضحوة النهار (وما وعاء أبغض إلى الله تعالى من بطن مليء من حلال) كما في الحديث لأن امتلاءه من الطعام يفضي إلى فساد الدين والدنيا، فغالب الأمراض تنشأ عن كثرة الأكل وإدخال الطعام في البدن قبل هضم الأول كذا قال العزيزي (فكيف) أي فما بالك (إذا ملىء) البطن (من حرام فإذا عرفت معنى الصوم) من تصفية القلب وقمع الشهوات (فاستكثر منه ما استطعت فإنه أساس العبادات) أي أصلها (ومفتاح القربات) كما قال صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ شَيْءٍ بَابٌ وَبَابُ العِبَادَةِ الصَّوْمُ" (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى) في الحديث القدسي (كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف) بكسر الضاد (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي) بفتح الهمزة وسكون الياء (به) أي الصوم، والمعنى أن العبادات قد كشف مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم، فإن الله تعالى تفرد بمقدار علم ثوابه وتضعيف حسناته، فقوله: وأنا أجزى به، أي أجزي جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وقيل: معناه أنه أحب العبادات إلي والمقدم عندي (وقال صلى الله عليه وسلم: والَّذِي نَفْسِي بيدِهِ) أي روحي بقدرته، وتصريفه كذا أفاده العزيزي. وقال البركوي: والذي جار ومجرور متعلق باقسم المقدر، ونفسي مبتدأ وبيده ظرف مستقر خبره، والجملة صلة الموصول، واللام في لخلوف جوابية، والمعنى: والله الذي روحي في قبضة قدرته (لَخُلُوفُ) بضم الخاء المعجمة واللام (فَمِ الصَّائِمِ) أي لرائحة فم الصائم لخلو معدته من الطعام (أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ) والمعنى أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع، ومجالس الذكر ورجح هذا المعنى النووي، ويحمل معنى الطيب على القبول والرضا. وقال الماوردي: المعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وقال بعضهم: إن للطاعات يوم القيامة ريحاً يفوح، فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك، وهذا كما ورد في الحديث المحرم يبعث يوم القيامة ملبياً، وكما روى أنه يبعث الزامر وتتعلق زمارته في يده ويلقيها، وتعود إليه فلا تفارقه (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالى عَزَّ مِنْ قائِلٍ) من زائدة وقائل حال من فاعل عز (إِنَّما يَذَرُ) أي يترك كما في رواية (شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) قال بعضهم قولهصلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى" عجز حديث للإمام أحمد عن مالك ومبدؤه قولهصلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن أفضل الأعمال: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لاَ مَثِلَ لَهُ" يقول الله تعالى إلى آخره (مِنْ أَجْلِي فَالصَّوْمُ لي) أي خالص لي فلا يدخله رياء بمجرد فعله، لأنه لا يطلع عليه ابن آدم، وإلا فقد يدخله الرياء بأن يخبر بأنه صائم (وَأنا أَجْزِي بهِ) ومن المعلوم أن الكريم إذا تولى الإعطاء بنفسه كان ذلك إشارة إلى تعظيم العطاء ففيه مضاعفة الجزاء من غير عدد ولا حساب، واتفق على أن الصائم هنا من سلم صيامه من المعاصي، كذا نقل عن القسطلاني (وقال صلى الله عليه وسلم: للجنة باب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون) وهو موعود بلقاء الله تعالى في جزاء صومه (فهذا القدر من شرح الطاعات) أي بيانها (يكفيك من بداية الهداية فإذا احتجت إلى الزكاة والحج أو إلى مزيد لشرح الصلاة والصيام فاطلبه) أي خذ ما تحتاجه (مما أوردناه) أي ذكرناه (في كتابنا إحياء علوم الدين) وشرح الصلاة والصيام قد وجد في هذا الشرح بعضه من كتاب الإحياء وبعضه من كتب شتى. 

(القسم الثاني): القول في اجتناب المعاصي
     أن للدين شطرين، ترك المناهي وفعل الطاعات من قسمي ظاهر علم التقوى هو (القول في اجتناب المعاصي) أي ظاهراً وباطناً (اعلم أن للدين شطرين) أي جزءين (أحدهما ترك المناهي والآخر فعل الطاعات) وهو ما تقدم ذكره (وترك المناهي هو الأشد) أي أثقل وأصعب من فعل الطاعات، ولذلك كان أكثر ثواباً منه (فإن الطاعات) الفاء للتعليل (يقدر عليها) أي على فعلها (كل أحد وترك الشهوات) القلبية والبدنية والفرجية (لا يقدر عليه) أي ترك الشهوات (إلا الصديقون) وهم الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان حتى اطلعوا على الأشياء، وأخبروا عنها على ما هي عليه (فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجر من هجر السوء) أي تركه (والمجاهد من جاهد هواه) أي من زجر نفسه عن اتباع شهواته بالصبر والتوطين على إيثار الخير، وفي رواية الترمذي وابن حبان المجاهد من جاهد نفسه، أي قهر نفسه الأدارة بالسوء على فعل الطاعة، وتجنب المعصية وجهادها أصل كل جهاد، فإنه لو لم يجاهدها لم يمكنه جهاد العدوّ كذا أفاده العزيزي وجنود النفس عشرة: الحرص والشهوة والشح والرغبة والزيغ والقسوة وسوء الخلق والأمل والتلمع والكسل. وجنود الهوى عشرة أيضاً: الحسد والتجبر والعجب والكبر والغل والمكر والوسوسة والمخالفة في الأمر وسوء الظن والجدال، كذا أفاده الهمداني (واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك) أي أعضائك التي تكتسب بها (وهي) أي الجوارح (نعمة من) نعم (الله) تعالى (عليك وأمانة) أي وديعة (لديك) لتحفظها عما نهى الله عنه (فاستعانتك بنعمة الله) أي التي هي الجوارح (على معصية غاية الكفران) أي الجحود بالنعمة وهو ضد الشكر (وخيانتك في أمانة) حيث استعملتها في غير مأذون (استودعكها الله تعالى) أي جعلها الله تعالى وديعة عندك (غاية الطغيان) أي غاية مجاوزة في العصيان (فأعضاؤك رعاياك) أي تحت نظرك والرعايا جمع رعية كخطايا جمع خطية (فانظر كيف ترعاها) أي تحفظها بقيام حقوقها (فكلكم) يا معشر بني آدم (راع) أي حافظ على ما عنده (وكلكم مسؤول) يوم القيامة (عن رعيته) بتشديد الياء والإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، كذا في الزواجر وما أحسن قول القائل في بحر الوافر:
وَلَوْ أَنَّا إذا مِتْنَا تُرِكْنَا >< لَكَانَ المَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَل?كِنَّا إذا مِتْنَا بُعِثْنَا >< وَنُسْأَلُ بَعدَ ذا عَنْ كُلِّ شَيِّ
     (واعلم أن جميع أعضائك ستشهد عليك في عرصات القيامة) أي أماكنها (بلسان طلق ذلق) أي فصيح عذب المنطق (تفضحك) أي تكشف الأعضاء مساويك (به) أي بذلك اللسان (على رؤوس الخلائق) أي أعينهم، وفي نسخة على ملأ من الخلق (قال الله تعالى) في سورة النور (يوم تشهد عليهم ألسنتم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) أي من قول وفعل، وهو يوم القيامة فإنه تعالى يوفيهم جزاءهم الحق (وقال الله تعالى) في سورة يس (اليوم نختم) أي نسد (على أفواههم وتكلمنا أيديهم) أي بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة (وتشهد أرجلهم) أي عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار (بما كانوا) أي في الدنيا بجبلاتهم (يكسبون) فكل عضو ينطق بما صدر منه، وفي كيفية هذا الختم وجهان: أقواهما أن الله تعالى يسكت ألسنتهم، وينطق جوارحهم فتشهد عليهم، وأن ذلك في قدرة الله تعالى يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فإن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة، فجاز تحريك غيره بمثلها، والله تعالى قادر على كل الممكنات، والوجه الآخر أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم، فيقفون ناكسي الرؤوس لا يجدون أعذاراً، فيعتذرون ولا مجال توبة فيستغفرون، وتكلم الأيدي هو ظهور الأمر بحيث لا يسمع منه الإنكار، والصحيح الأول كذا في السراج المنير (فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصي وخصوصاً أعضاءك السبعة) التي سيأتي بيانها (فإن جهنم لها سبعة أبواب) بعضها فوق بعض أي سبع طبقات. قال ابن جريج: النار سبع دركات أولها جهنم، ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحم ثم الهاوية، وتخصيص هذا العدد لأن أهلها سبع فرق، وأيضاً أنه على وفق الأعضاء السبعة من العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، لأنها مصادر السيئات فكانت مواردها الأبواب السبعة، ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية، والنية من أعمال القلب زادت الأعضاء واحداً، فجعلت أبواب الجنان ثمانية (لكل باب) من السبعة (منهم) أي الغاوين خاصة لا يشاركهم فيه مخلص (جزء) أي نصيب (مقسوم) أي معلوم، فلكل دركة قوم يسكنونها.
     قال الضحاك: في الدركة الأولى أهل التوحيد الذين أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون. وفي الثانية النصارى، وفي الثالثة اليهود، وفي الرابعة الصابئون، وفي الخامسة المجوس، وفي السادسة أهل الشرك، وفي السابعة المنافقون. وروي عن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أبوابٍ: بابٌ مِنْها لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي" كذا في السراج المنير. (ولا يتعين لتلك الأبواب) السبعة (إلا من عصى الله تعالى بهذه الأعضاء السبعة وهي: العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل) وكل واحد من هذه نعمة يجب على صاحبها أداء شكره باستعماله في طاعة الله تعالى (أما العين فإنما خلقت لك لتهتدي بها في الظلمات وتستعين بها في الحاجات وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسموات وتعتبر) أي تتعظ وتتذكر (بما فيها) أي عجائب الملكوت (من الآيات) أي الدلالات الواضحات على وحدانية الله تعالى كما قال الله تعالى {إِنَّ في خَلْقِ السَّم?وَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي في البَحْرِ بما يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأحْيَا بهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحَاب المُسَخَّرِ بيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164) أي ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة (فاحفظها عن أربع أن تنظر بها إلى غير محرم) من النساء الأجنبيات جميع بدنها حتى العين والشعر والظفر وغير ذلك. كذا الالتذاذ بقدها ولا بأس بالتأمل في جسدها، وعليها ثياب ما لم يكن ثوب يبين حجمها، وإلا فلا ينظر إليه لقوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ تأمَّلَ خَلْفَ امْرَأةٍ وَرَأَى ثِيَابَها حَتى تَبينَ لَهُ حَجْمُ عِظَامِها لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ" وإلى العورات ولو من محرم ولا حرج على من سبق نظره إلى رؤيتها من غير قصد في المرة الأولى بخلاف ما لو أعادها كما قاله الرملي (أو إلى صورة) أي صورة كانت من (مليحة ولا بشهوة نفس).
     وروى أن قوماً قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم أمرد حسن فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم خلف ظهره وقال: "إِنَّما كانَتْ فِتْنَةُ دَاوُدَ مِنَ النَّظَرِ"، وكان يقال النظر بريد الزنى. (أو تنظر بها) أي العين (إلى مسلم بعين الاحتقار أو تطلع بها على عيب مسلم) قال الله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهِمْ} (النور:30) وقال بعضهم من بحر البسيط:
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ >< وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
وَالمَرْءُ ما دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا >< في أعْيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلى الخَطَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَعَلَتْ في قَلْبِ صَاحِبِهَا >< فِعْلَ السِّهَامِ بلا قَوْسٍ وَلاَ وَتَرِ
يَسُرُّ نَاظِرَهُ ما ضَرَّ خَاطِرَهُ >< لا مَرْحَباً بِسُرُورٍ عادَ بِالضَّرَرِ
     وقال بعضهم رحمه الله تعالى:
المَرْءُ إنْ كانَ عاقلاً وَرِعاً >< أَشْغَلَهُ عَنْ عُيُوبهِمْ وَرَعُهْ
كَمَا العَلِيلُ السَّقِيمُ أشْغَلَهُ >< عَنْ وَجَعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَجَعُهْ
     (وأما الأذن فاحفظها عن أن تصغي بها إلى البدعة) كالغناء وآلة اللهو كالطنبور والعود والمزمار وغير ذلك (أو) إلى (الغيبة أو) إلى (الفحش) كإفشاء سر زوجته، وهي سره بأن يذكر كل منهما مايقع بينهما من تفاصيل الجماع ونحوهما مما يخفى (أو) إلى (الخوض في الباطل) أي إيجاد الكلام في غير مواقعه (أو إلى ذكر مساوىء الناس فإنما خلقت) أي الأذن (لك لتسمع بها كلام الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمة أوليائه وتتوصل باستفادة العلم بها إلى الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار) بكسر الجيم (رب العالمين فإذا أصغيت بها إلى شيء من المكاره صار ما كان) نافعاً (لك) ضاراً (عليك وانقلب ما كان سبب فوزك) بالثواب (سبب هلاكك) بحصول العقاب إن لم تثب (وهذا) أي الصيرورة والانقلاب (غاية الخسران ولا تظن أن الإثم يختص به القائل دون المستمع ففي الخبر أن المستمع شريك القائل) أي في الإثم (وهو أحد المغتابين) وفي ذلك يقول القائل من بحر المتقارب:
وَسَمْعَكَ صُنْ عَنْ سَمَاعِ القَبيحِ >< كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ
فَإِنَّكَ عِنْدَ سَمَاعِ القَبيحِ >< شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ
     قال النووي: ولا بد من كراهة نحو الغيبة بقوله: إن خاف ضرراً ظاهراً في نهيه باليد أو باللسان، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه نحو الغيبة، وعجز عن الإنكار، أو نكر فلم يقبل منه، ولم يمكنه المفارقة بطريق حرم عليه الاستماع والإصغاء له، بل طريقه أن يذكر الله تعالى بلسانه وقلبه، أو بقلبه أو يكفر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة، وهم مستمرون في الغيبة ونحوها، وجب عليه المفارقة. وروي عن إبراهيم أنه دعي إلى وليمة فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم فقالوا: إنه ثقيل. فقال إبراهيم: أنا قد فعلت هذا لنفسي حين حضرت موضعاً يغتاب فيه الناس، فخرج ولم يأكل ثلاثة أيام انتهى. (وأما اللسان فإنما خلق لك لتكثر به ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه) وفي نسخة تلاوة القرآن (وترشد به) أي اللسان (خلق الله تعالى إلى طريقه) أي دينه الحق الذي سلكه رسول الله وأصحابه (وتظهر به ما في ضميرك) أي باطنك (من حاجات دينك ودنياك فإذا استعملته) أي اللسان (في غير ما خلق) أي اللسان (له فقد كفرت) أي جحدت (نعمة الله تعالى فيه وهوأغلب أعضائك عليك وعلى سائر الخلق) قال بعضهم نظماً من بحر الكامل:
احْفَظْ لِسَانَكَ وَاسْتِعِذْ مِنْ شَرِّهِ >< إِنَّ اللِّسَانَ هُوَ العَدُوُّ الذَّابِحُ
وَزِنِ الكَلامَ إذا نَطَقْتَ بِمَجْلِسٍ >< وَزْناً يَلُوحُ بِهِ الصَّوَابُ اللاَّئحُ
فالصَّمْتُ مِنْ سَعْدِ السُّعُودِ بمطلعٍ >< يَحْمِي الفَتَى والنُّظْقُ سَعْدُ الذَّابحِ
     وكان من دعاء داود عليه السلام: اللهم إني اسألك أربعة، وأعوذ بك من أربعة، فأما اللواتي أسألك فإني أسألك لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وبدناً صابراً، وزوجة تعينني في دنياي وآخرتي، وأما اللواتي أعوذ بك منهن، فإني أعوذ بك من ولد يكون علي سداً، ومن امرأة تشيبني قبل وقت المشيب، ومن مال يكون عذاباً لي ووبالاً علي، ومن جار إن رأى مني حسنة كتمها، وإن رأى سيئة أفشاها. (ولا يكب الناس) بضم الكاف وهذا من النوادر فإن ثلاثيه متعد ورباعيه لازم، ألا يلقى أكثر الناس (في النار) أي نار جهنم (على مناخرهم) جمع منخر بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة وفتحها ثقبة الأنف (إلا حصائد) جمع حصيدة بمعنى محصودة (ألسنتم) أي ما تكلمت الألسنة به من الإثم كالكذب والقذف والسب والنميمة وغير ذلك، وإضافة حصائد إلى الألسنة من إضافة اسم المفعول إلى فاعله، أي محصودات الألسنة شبه ما تكتسبه الألسنة من الكلام الحرام بحصائد الزرع في أن كلاً كسب وجمع، وشبه اللسان في تكلمه بذلك بحد المنجل الذي يحصد به الناس الزرع. وقال الشافعي رضي الله عنه من بحر الكامل:
احْفَظْ لِسَانَكَ أيُّها الإنْسَانُ >< لا يَلْدَ غَنَّكَ إِنَّهُ ثُعْبَانُ
كم في المَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ لِسَانِهِ >< كانَتْ تَهَابُ لقاءهُ الشُّجْعَانُ
(فاستظهر) أي اطلب الغلبة واستعن (عليه) أي اللسان (بغاية قوتك حتى لا يكبك في قعر) أي نهاية أسفل (جهنم ففي الخبر أن الرجل) أي الإنسان ذكراً كان أو أنثى (ليتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه) والمراد ما فيه إيذاء مسلم ونحوه دون مجرد المزاح المباح (فيهوي بها) أي يسقط بسببها (في قعر جهنم سبعين خريفاً) أي عاماً لما فيها من الأوزار التي غفل عنها، أو إذا لم يثب عنها، والمراد أنه يكون دائماً في صعود وهوى، فالسبعين للتكثير لا للتحديد، كذا نقل العزيزي عن المناوي (وروي أنه) أي الشأن (قتل شهيد في المعركة) أي محل الحرب (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي يوم أحد فوجد على بطنه صخرة من الجوع (فقال قائل) أي شخص قائل، وهو أم الفضل بعد أن مسحت التراب عن وجهه (هنيئاً له بالجنة) أي ثبت لهذا المقتول الظفر بالجنة حال كونه هنيئاً، أي بلا مشقة في تحصيل الجنة (فقال النبي صلى الله عليه وسلم وَمَا يُدْرِيكِ) أي أي شيء يجعلك دارية بماله (لَعَلَّهُ) أي هذا المقتول (كَانَ يَتَكلَّمُ فيما لا يعْنِيهِ) بفتح الياء وسكون العين وكسر النون، أي بما لا يهمه من أمر دنياه وعقباه (وَيَبْخَلُ بما لا يُغْنِيهِ) بضم أوله وسكون المعجمة، أي من أقوال وأفعال وطلب رياسة وحب محمدة، ومثال ذلك مما يجلب له شراً، ولا يذهب عنه ضراً، وقوله: ويبخل، لعل الواو بمعنى أو كذا في شرح الشفاء، وذكر بعضهم أن الكلام أربعة أقسام: ضرر محض ونفع محض وضرر ومنفعة، ولا ضرر ولا منفعة، فالضرر المحض لا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة، ولا تفي المنفعة بالضرر، وأما ما لا ضرر فيه ولا منفعة، فهو فضول والاشتغال به تضييع زمن، وهو عين الخسران فلا يبقى إلا القسم الواحد، فيسقط ثلاثة أرباع الكلام، وفيه خطر إذا كان يجر ما فيه إثم من الرياء والتصنع ونحوهما. وقال لقمان لابنه: لو كان الكلام من فضة كان السكوت من ذهب. ومعناه كما قال ابن المبارك: لو كان الكلام في طاعة الله من فضة كان السكوت عن معصية الله من ذهب. 
     وقال إبراهيم العتكي من بحر البسيط:
قَالُوا سُكُوتُكَ حِرْمَانٌ فَقُلْتُ لَهُمْ >< ما قَدَّرَ اللَّهُ يَأتِيني بلا نَصَبِ
وَلَوْ يَكُونُ كلامي حِينَ أنْشُرُه >< مِنَ اللُّجَيْنِ لكانَ الصَّمْتُ مِنْ ذَهَبِ
     وقال بعضهم في الصمت سبعة آلاف خير: وقد اجتمع ذلك كله في سبع كلمات في كل كلمة منها ألف، أولها أن الصمت راحة غير عناء، والثاني زينة من غير حلي، والثالث هيبة من غير سلطان، والرابع حصن من غير حافظ، والخامس استغناء عن الاعتذار إلى الناس، والسادس إراحة الكرام الكاتبين، والسابع ستر لعيوبه، لأن الصمت زين للعالم وستر للجاهل. وقيل ثلاثة أشياء تقسي القلب: الضحك من غير عجب، والأكل من غير جوع، والكلام من غير حاجة (فاحفظ لسانك من ثمانية) أشياء (الأول الكذب) وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب (فاحفظ منه) أي الكذب (لسانك في الجد والهزل) أي المزاح (ولا تعود لسانك الكذب هزلاً) أي لا تصير الكذب بالهزل للسانك عادة (فيتداعى إلى الجد) وفي نسخة فيدعوك إلى الكذب في الجد (والكذب من أمهات الكبائر) أي أصولها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وَالبِرُّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صدِّيقاً، وإِيَّاكُمْ وَالكَذِبَ، فإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ وَمَا يَزَالُ العَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً" (ثم إنك إذا عرفت) بين الناس (بذلك) أي الكذب (سقطت عدالتك) فلا تقبل شهادتك (والثقة بقولك) أي وسقط الائتمان بقولك (وتزدريك الأعين) أي ما تعدك شيئاً (وتحتقرك) وهذا عطف تفسير (وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب من نفسك فانظر إلى كذب غيرك وإلى نفرة) أي إعراض (نفسك عنه واستحقارك لصاحبه) أي الكذب (واستقباحك له) وفي نسخة لما جاء به أي من الكذب (وكذلك فافعل في جميع عيوب نفسك فإنك لا تدري قبح عيوبك من نفسك بل) إنك تدري ذلك (من غيرك فما استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك لا محالة) أي لا بد، واعلم أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، فإذا ختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة، وسأل عنها ظالم يريد أخذها وجب عليه الكذب بإخفائها حتى لو أخبره بوديعة عنده، فأخذها ظالم قهر أوجب ضمانها على المودع المخبر ولو استحلفه عليها لزمه أن يحلف ويوري في يمينه، فإن حلف ولم يور حنث على الأصح ولزمته الكفارة، وقيل: لا يحنث، وكذلك لو كان المقصود تسكين حرب و إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية، ولا يحصل إلا بكذب، فالكذب ليس بحرام إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة بأن لم يحصل الغرض إلا بالكذب، والاحتياط في هذا كله أن يوري، ومعنى التورية أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ، ولو لم يقصد هذا، بل أطلق عبارة الكذب، فليس بحرام في هذا الموضع كذا في الأذكار والإحياء (فلا ترض لنفسك ذلك) أي ما تقدم ذكره
     (الثاني الخلف في الوعد فإياك أن تعد بشيء ولا تفي به بل ينبغي أن يكون إحسانك إلى الناس فعلاً بلا قول فإن اضطررت إلى الوعد فإياك أن تخلف إلا لعجز أو ضرورة فإن ذلك) أي الإخلاف من غير ضرورة (من أمارات النفاق وخبائث الأخلاق قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثٌ مَنْ كُنَّ) أي اجتمعن (فيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ) أي حاله يشبه حال المنافقين (وإِنْ صَامَ) أي رمضان (وَصَلَّى) الصلاة المفروضة. وزاد بعد ذلك في رواية أبي يعلى ورسته بضم الراء: وحج واعتمر، وقال إني مسلم (مَنْ إذا حَدَّثَ كَذَبَ) أي في حديثه (وَإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ) أي ما وعد به من غير عذر (وإذا ائْتُمِنَ خَانَ) فيما جعل أميناً عليه. وقال العزيزي: والكلام فيمن صارت هذه الصفات ديدنه، وشعاره لا ينفك عنها. وروى الشيخان عن عبداللهبن عمروبن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيهِ كانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كاَنَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَها: إذا ائْتُمِنَ خَانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذا خَاصَمَ فَجَرَ" أي مال في الخصومة عن الحق، واقتحم الباطل. والمراد بالنفاق العلم لا الإيمان، أو النفاق العرفي لا الشرعي، لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقى في الدرك الأسفل من النار كذا أفاده العزيزي (الثالث الغيبة فاحفظ لسانك عنها) أي وعن السكوت عليها رضاً وتقريراً (والغيبة أشد من ثلاثين زنية) بفتح الزاي وهي المرة من الزنى (في الإسلام كذلك ورد في الخبر ومعنى الغيبة أن تذكر إنساناً بما يكرهه لو سمعه) سواء ذكرته بلفظك، أو في كتابك أو رمزت، أو أشرت إليه بعينك أو يديك أو رأسك، وضابط الغيبة كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم في بدنه، أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو قوله أو دينه أو دنياه حتى في ثوبه وداره ودابته (فأنت مغتاب ظالم وإن كنت صادقاً) أي في ذكرك ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنْ كانَ فيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
     (وإياك) أي احذر تلاقيك (وغيبة القراء المرائين) وهو أخبث أنواع الغيبة رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. (وهو أن تفهم المقصود) بطريق الصالحين إظهاراً من نفسك للتعفف عن الغيبة (من غير تصريح) بل بتعريض لشخص معين إما حي وإما ميت تعريضاً يفهم به كما يفهم بالتصريح (فتقول) إذا قيل لك مثلاً: كيف حال فلان (أصلحه الله فقد ساءني) أي أحزنني (وغمني ما جرى عليه) أي من الدخول على السلطان مثلاً، أو من التبذل في طلب الحطام أو من قلة الحياء (فنسأل الله تعالى أن يصلحنا وإياه فإن هذا) أي القول (جمع بين خبيثين أحدهما الغيبة إذا حصل به) أي بهذا القول (التفهم) أما إذا لم يفهم عين الشخص جاز القول، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كره من إنسان شيئاً قال: "ما بالُ أقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كذا وكذا" فكان لا يعين (والآخر تزكية النفس) أي مدحها (والثناء عليها بالتحرج) أي بحكمك على الغير بالإثم (والصلاح) أي لنفسك فتذكر نفسك ومقصودك أن تذم غيرك في ضمن ذلك، وتمدح نفسك بالصلاح في ذم غيرك، فتجمع بين خبيثين الغيبة وتزكية النفس، بل أربعة؛ وهي أيضاً الرياء وظن صلاح نفسك، فأنت ترائي وتظن بجهلك أنك من الصالحين المتعففين عن الغيبة، ومنشأ ذلك الجهل، فإن من تعبد على جهل لعب به الشيطان، ومن ذلك أنه يذكر عيب إنسان ويذكر الله تعالى، ويستعمل اسمه تعالى آلة له في تحقيق خبثه، وأيضاً أنك تكون كاذباً في دعوى الحزن والاهتمام وفي إظهار الدعاء (ولكن إن كان مقصودك من قولك أصلحه الله تعالى الدعاء) لذلك الشخص (فادعُ له في السر) عقب صلاتك (وإن اغتممت بسببه) أي ذلك الشخص (فعلامته) أي الاغتمام (أنك لا تريد فضيحته) أي كشف مساويه (وإظهار عيبه) وهذا عطف تفسير بل تكره ذلك (وفي إظهارك الغم بعينه إظهار تعييبه) أي إظهارك نسبته إلى العيب (ويكفيك زاجراً عن الغيبة) زاجراً تمييز (قوله تعالى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) قال الشربيني: أي ولا يتعمد أن يذكر بعضكم بعضاً أي في غيبته بما يكره (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يَأكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}) أي الأكل أو اللحم أو الميت (فقد شبهك الله بآكل لحم الميتة) ففي هذا التشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، لأن الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم (فما أجدرك) أي فأنت حقيق (أن تحترز منها) أي الغيبة (ويمنعك عن غيبة المسلمين أمر لو تفكرت فيه) لأنصفت (وهو أن تنظر في نفسك هل فيك عيب ظاهر أو باطن وهل أنت مقارف) أي فاعل (معصية سراً أو جهراً فإذا عرفت ذلك) أي العيب والمعصية (من نفسك فاعلم أن عجزه) أي الشخص الذي اغتبته (عن التنزه) أي التباعد (عما) أي عن شيء (نسبته إليه) أي ذلك الشخص (كعجزك) عن ذلك (وعذره) أي كثرة عيوبه وذنوبه (كعذرك) أي ككثرة عيوبك وذنوبك كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك، فاذكر عيوبك. وقال أبو هريرة: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه (وكما تكره) أنت (أن تفتضح) أي تكشف مساويك (وتذكر عيوبك) بحضرة غيرك (فهو) أي الشخص المغتاب (أيضاً يكرهه) أي الفضيحة وذكر العيوب (فإن سترته) أي ذلك الشخص (ستر الله عليك عيوبك وإن فضحته سلط الله عليك ألسنة حداداً) بكسر الحاء (يمزقون عرضك) بكسر العين (في الدنيا ثم يفضحك الله في الآخرة على رؤوس الخلائق يوم القيامة وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك فلم تطلع فيهما على عيب ونقص في دين ولا دنيا) بضم الدال وكسرها (فاعلم أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة) أي الفساد في العقل (ولا عيب أعظم من الحمق ولو أراد الله بك) الباء بمعنى اللام كما في بعض النسخ لك باللام (خيراً لبصرك بعيوب نفسك فرؤيتك نفسك بعين الرضا غاية غباوتك) أي قلة فطنتك (وجهلك) وأكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفهسم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه،
     فمن أراد من يعرف عيوب نفسه، فله أربعة طرق: الأول أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات، ويتبع إشارته في مجاهدته. الثاني أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليه. الثالث أن يستفيد معرفة نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدي المساوىء إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو، وحمل قوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه. الرابع أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق فليطالب نفسه به، فإن المؤمن مرآة المؤمن (ثم إن كنت صادقاً في ظنك) أنك لم تنقص في دينك ودنياك (فاشكر الله تعالى عليه) أي على كمالك في دين ودنيا (ولا تفسده) أي الدين والدنيا (بثلب الناس) أي بلومهم وتعييبهم، وهو بالثاء المثلثة فاللام (والتمضمض) أي التصوت (بأعراضهم) أي بشتم نفوسهم وهذا عطف مرادف (فإن ذلك من أعظم العيوب) وقال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء وإياكم والغيبة، وذكر الناس، فإنه داء، واعلم أن سوء الظن حرام مثل القول، فكما يحرم أن تحدث غيرك بمساوىء إنسان يحرم أن تحدث نفسك بذلك، وتسيء الظن به قال الله تعالى {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} (الحجرات:12) وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِيَّاكُمْ والظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ" والمراد بالظن جزم القلب بسببه على غيرك بالسوء، فأما الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر، ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه، وهو المراد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله تَعَالَى تَجَاوزَ لأمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهَا أَنْفُسَها ما لَمْ تَتَكَلَمْ بِهِ، أوْ تَعْمَلْ" قال العلماء: والمراد بذلك الخواطر التي لا تستقر، سواء كان ذلك الخاطر غيبة أو كفراً أو غيره، فمن خطر له الكفر مجرد خطور من غير تعمد لتحصله، ثم صرفه في الحال، فليس بكافر ولا شيء عليه، وسبب العفو تعذر اجتنابه، وإنما الممكن اجتناب الاستمرار عليه، فلهذا كان الاستمرار وعقد القلب حراماً ومهما عرض لك هذا الخاطر بالغيبة وغيرها من المعاصي وجب عليك دفعه بالإعراض عنه، وذكر التأويلات الصارفة له عن ظاهره كذا في أذكار النووي (الرابع) من الثمانية (المراء والجدال) هذا من عطف الأعم على الأخص، لأن المراء هو الطعن في القول والتزييف له والتصغير لقائله، وليس في ذلك غرض سوى ذلك، ولا يكون المراء إلا اعتراضاً على كلام سبق بخلاف الجدال، فإنه يكون ابتداء واعتراضاً، ويتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها (ومناقشة الناس في الكلام) أي الاستقصاء في الكلام مع الناس، وهذا هو المسمى بالخصومة، فإنه لجاج في الكلام ليستوفي به مال أو حق مقصود، وذلك تارة يكون ابتداء، وتارة يكون اعتراضاً (فذلك) أي المذكور (فيه إيذاء) أي إيصال المكروه (للمخاطب وتجهيل له وطعن) أي قدح (فيه) أي المخاطب، وفي الحديث لا يكون المؤمن طعاناً أي في أعراض الناس (وفيه) أي المذكور (ثناء على النفس وتزكية لها بمزيد الفطنة) بكسر الفاء (والعلم ثم هو مشوش) أي مكدر (للعيش فإنك لا تماري سفيهاً) أي غير حليم (إلا ويؤذيك ولا تماري حليماً) أي متأنياً في الأمر (إلا ويقليك) أي يبغضك (ويحقد عليك) أي يمسك عداوتك في قلبه ويتربص لفرصتها، ومن بدأ بالخصومة فقد شوش خاطره حتى أنه في صلاته يشتغل بمحاجة خصمه (فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ المَرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ) أي مدع بطلانه (بَنَى اللَّهُ لَهُ بيْتاً في رَبَضِ الجَنَّةِ) أي فيما حولها، والربض هو بفتح الراء والباء الموحدة (ومن ترك المراء وهو محق) أي مدع أنه على الحق (بنى الله له بيتاً في أعلى الجنة) أي لشدة ذلك على النفس، ومحل جواز ترك المراء إذا لم يلزم على ذلك ضياع الحق الواجب، وظهور المفسدة وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بُنِيَ لَهُ بيْتٌ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ مُحِقُّ بُنِي لَهُ بيْتٌ في وسطها، وَمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ بُنِيَ لَهُ بيْتٌ في أعْلاهَا" (ولا ينبغي) أي لا يليق (أن يخدعك الشيطان ويقول لك أظهر الحق ولا تداهن) أي لا تلن (فيه) أي الحق (فإن الشيطان) الفاء للتعليل (أبداً يستجر الحمقى إلى الشر في معرض الخير) أي في مسلكه
     (فلا تكن ضحكة) بضم ففتح كثير الضحك (للشيطان فيسخر منك) وفي بعض النسخ بك (فإظهار الحق حسن مع من يقبله منك وذلك) أي كون إظهار الحق حسناً (بطريق النصيحة في الخفية لا بطريق المماراة) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ في الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظاهِرُها مِنْ بَاطِنِها، وبَاطِنُها مِنْ ظَاهِرِها، أعَدَّها اللَّهُ تَعَالى لِمَنْ أطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَلانَ الكلام" وقال أيضاً: "الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ" (وللنصيحة صفة وهيئة) كتليين الكلام وخفية المكان (ويحتاج فيها) أي النصيحة (إلى تلطف) أن ترفق في الحال والمقال (وإلا صارت فضيحة) أي كشف عيب (وكان فسادها) أي الفضيحة (أكثر من صلاحها ومن خالط متفقهة العصر) أي من عاشر المتفقهة في هذا الزمان (غلب) أي كثر (على طبعه المراء والجدال وعسر عليه الصمت إذ ألقى إليه) أي لأنه علمه (علماء السوء أن ذلك) أي المراء والجدال (هو الفضل) أي الخير (و) أن (القدرة على المحاجة) أي المغالبة في الحجة (والمناقشة) أي استقصار الكشف في الشي (هو الذي يمتدح به ففر منهم) أي علماء السوء (فرارك من الأسد واعلم أن المراء سبب المقت) أي البغض (عند الله وعند الخلق) قال عليه الصلاة والسلام: "ذَرُوا المِرَاءَ فإِنَّهُ لا تُفْهَمُ حِكْمَتُهُ وَلا تُؤمَنُ فِتْنَتُهُ" وقال أيضاً: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء، وإن كان محقاً" وقال مسلمبن يسار: إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم، وعندها يبغي الشيطان زلته. وقال أبو الدرداء: كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً. وقال عمر رضي الله عنه: لا تتعلم العلم لثلاث، ولا تتركه لثلاث، لا تتعلمه لتماري به، ولا لتباهي به، ولا لترائي به، ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضاً بالجهل به. (الخامس تزكية النفس) أي مدحها بالطهارة عن الدناءة على سبيل الإعجاب أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن، لأن التحدث بها شكرها وإنما جاز إذا قصد به الشكر، وأن يقتدي به غيره وأمن على نفسه الفتنة، والستر أفضل كذا أفاده الشربيني (فقد قال الله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم) بأن يثني الإنسان على نفسه (هو) أي الله تعالى (أعلم) منكم ومن جميع الخلق (بمن اتقي) أي فإنه يعلم المتقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم عليه السلام (وقيل لبعض الحكماء) أي الواضعين الشيء في محله، وهم الأولياء الصالحون، وليس المراد بالحكماء هنا الأطباء بل المراد بهم أطباء القلوب (ما الصدق القبيح فقال ثناء المرء على نفسه) وهو من علامات كونه محجوباً عن الله تعالى، كما نقله الشربيني عن القشيري
     (فإياك) أي احذر (أن تتعود ذلك) أي أن تصير تزكية النفس عادة لك (واعلم أن ذلك) أي تزكية النفس (ينقص من قدرك) أي قيمتك (عند الناس ويوجب مقتك) أي بغضك (عند الله تعالى فإذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك) بل ينقصه عنده (فانظر إلى أقرانك) جمع قرن وهم أهل زمان واحد (إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل) عند غيرهم (والجاه) أي المنزلة والمال وبالبركة والطهارة عن الدناءة (كيف يستنكره) أي الثناء (قلبك عليهم ويستثقله طبعك وكيف تذمهم عليه) أي الثناء (إذا فارقتهم) من ذلك المجلس، وإذا كان الأمر كذلك (فاعلم أنهم) أي الأقران (أيضاً في حال تزكيتك نفسك يذمونك في قلوبهم ناجزاً) أي حاضراً (وسيظهرونه) أي الذم عليك (بألسنتهم إذا فارقتهم) فإن المؤمن مرآة المؤمنين، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه، لأن الطباع متقاربة في اتباع الهوى، وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم، لاستغنوا عن المؤدب، قال النووي: اعلم أن ذكر المرء محاسن نفسه ضربان: مذموم ومحبوب، فالمذموم أن يذكره للافتخار، وإظهار الارتفاع، والتميز على الأقران وشبه ذلك، والمحبوب أن يكون فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر أو ناصحاً أو مشيراً بمصلحة أو معلماً أو مؤدباً أو واعظاً أو مذكراً أو مصلحاً بين اثنين، أو يدفع عن نفسه شراً أو نحو ذلك، فيذكر محاسنه ناوياً بذلك أن يكون هذا أقرب إلى قبول قوله، واعتماد ما يذكره أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري، فاحتفظوا به أو نحو ذلك (السادس) من الثمانية (اللعن) وهو الإبعاد عن رحمة الله تعالى (فإياك) أي احذر (أن تلعن شيئاً مما خلق الله تعالى من حيوان أو طعام أو إنسان بعينه) ولو كافراً كقولك زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلاً فذلك خطر لأنه ربما يسلم، فيموت مقرباً عند الله تعالى، أما اللعن بالوصف الأعم، فيجوز كقوله: لعن الله الظالمين لعن الله الكافرين، لعن الله اليهود والنصارى، لعن الله الفاسقين، لعن الله المصورين ونحو ذلك
     (ولا تقطع) أي لا تجزم (بشهادتك على أحد من أهل القبلة) أي المسلمين (بشرك أو كفر أو نفاق) فإن ذلك أمر صعب جداً (فإن المطلع على السرائر هو الله تعالى فلا تدخل بين العباد وبين الله تعالى) قال صلى الله عليه وسلم: "ما شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بالكُفْرِ إِلا بَاءَ بهِ أَحَدُهُما إِنْ كَانَ كَافِراً فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِراً فَقَدْ كَفَرَ بِتَكْفِيرِهِ إِيَّاهُ" فإن قيل هل يجوز لعن اليزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به؟ قلنا: هذا لم يثبت أصلاً، فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت فضلاً عن اللعنة، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق، نعم يجوز أن يقال: قتل ابن ملجم علياً. وقتل أبو لؤلؤة عمر. فإن ذلك ثبت متواتراً كما في الإحياء (واعلم أنك يوم القيامة لا يقال لك لم لم تلعن فلاناً ولم سكت عنه بل لو لم تلعن إبليس طول عمرك ولم تشغل لسانك بذكره) أي إبليس (لم تسأل عنه ولم تطالب به يوم القيامة) وليس في السكوت خطر (وإذا لعنت أحداً من خلق الله تعالى طولبت به) أي باللعن وسئلت عنه فإذا لعن ما لا يستحق اللعن، فلتبادر بقوله إلا أن يكون لا يستحق كذا في أذكار النووي (ولا تذمنَّ شيئاً مما خلق الله تعالى فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يذم الطعام الرديء) أي الخسيس. (قط) بضم الطاء مشددة (بل كان إذا اشتهى شيئاً) من الطعام (أكله وإلا تركه) من غير ذم، ومن الألفاظ المذمومة المستعملة في العادة قوله لمن يخاصمه: يا حمار يا تيس يا كلب، فهذا قبيح لوجهين: أحدهما أنه كذب، والآخر أنه إيذاء، وهذا بخلاف قوله يا ظالم ونحوه، فإن ذلك يتسامح به لضرورة المخاصمة مع أنه يصدق غالباً، فما من إنسان إلا وهو ظالم لنفسه، ولغيره كذا في أذكار النووي (السابع الدعاء على الخلق) بالهلاك (فاحفظ لسانك عن الدعاء على أحد من خلق الله تعالى وإن ظلمك) أي أحد (فكل) أي فوض (أمره) أي الظالم (إلى الله تعالى) واكتف به تعالى
     (ففي الحديث أن المظلوم ليدعو على ظالمه) بالهلاك (حتى يكافئه) أي يقابله في ثقل المظلمة (ثم يبقى للظالم فضل) أي زيادة (عنده) أي المظلوم (يطالبه به) أي يطلب الظالم من المظلوم ذلك الفضل (يوم القيامة وطول بعض الناس لسانه على الحجاج) بن يوسف الثقفي وهو أمير عالم لكنه ظالم (فقال بعض السلف) الصالح وهو والإمام محمدبن سيرين إمام المعبرين نهيا عن تطويل الكلام على الحجاج (إن الله لينتقم) أي ليعاقب (للحجاج) أي لأجله (ممن تعرض له) أي الحجاج (بلسانه) فقوله ممن معمول لينتقم، والضمير المجرور باللام يعود إليه كالضمير المستتر في ظلم (كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه) أي لأجل من ظلمه، فإن قتل وصلب سيدنا عبداللهبن الزبير وهو صحابي، ثم لما قتل سعيدبن جبير أحد أكابر التابعين والعلماء العاملين لم يزل دمه يغلي حتى ملأ أثواب الحجاج وفاض حتى دخل تحت سريره، ولم يخمد في نفسه، ولم ير شيء أكثر دماً من الإنسان، فلم يزل الحجاج بذلك فزعاً حتى منع منه النوم، فيقول: مالي ومالك يا سعيدبن جبير ستة أشهر، ثم إن بطنه استسقى حتى انشق، فمات فلما دفن لفظته الأرض، وبقي بعد سعيدبن جبير ستة أشهر، ونقل أن المسجونين قد وجدوا بعد موته ثلاثة وثلاثين ألفاً من المظلومين، وقد أحصى من قتله الحجاج صبراً، فوجد مائة ألف وعشرين ألفاً كذا في شرح الشفاء (الثامن) وهو يطلب تمام ما حفظ اللسان منه (المزاح والسخرية والاستهزاء بالناس). والمراد بالمزاح هنا الهزل المذموم، ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة بالفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وإذا كان بحضرة المستهزإ به لم يسم ذلك غيبة وفيه معنى الغيبة (فاحفظ لسانك منه) أي المذكور من المزاح وما بعده (في الجد) بكسر الجيم (والهزل فإنه) أي المذكور (يريق ماء الوجه ويسقط المهابة) أي الإجلال والمخافة (ويستجر الوحشة) أي الهم والخوف والخلوة (ويؤذي القلوب) أي قلوب الأقران (وهو مبدأ اللجاج) أي الخصومة (والغضب والتصارم) أي التقاطع في الصحبة (ويغرس) بكسر الراء أي ينبت (الحقد) أي الاحتواء على العداوة (في القلوب فلا تمازح أحداً) أبداً (فإن مازحك أحد فلا تجبه) وفي بعض النسخ وإن مازحوك فلا تجبهم (وأعراض) أي نول (عنهم) أي الممازحين (حتى يخوضوا) أي يدخلوا (في حديث) أي خبر (غيره) أي المزاح (وكن من الذين إذا مروا باللغو) أي الذي ينبغي أن يطرح من الكلام القبيح وغيره (مروا كراماً) أي آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، إن تعلق بهم أمر أو نهي إشارة، وعبارة على حسب ما يرونه نافعاً، فإن لم يتعلق بهم ذلك كانوا معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه، والخوض فيه من ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب والكف عما يستهجن التصريح به، كذا في السراج المنير. وقال عمربن عبدالعزيز: اتقوا الله وإياكم والمزاح، فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، وتحدثوا بالقرآن وتجالسوا به، فإن ثقل عليكم، فحديث حسن من حديث الرجال أي الصالحين
     (فهذه) أي الثمانية المذكورة (مجامع آفات اللسان ولا يعينك) أي لا يساعدك (عليه) أي اللسان (إلا العزلة) أي عن الناس (أو ملازمة الصمت إلا بقدر الضرورة) أي الحاجة قال صلى الله عليه وسلم: {مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْلَمَ فَلْيَلْزَمِ الصَّمْتَ}. (أو ملازمة الصمت إلا بقدر الضرورة) أي الحاجة قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْلَمَ فَلَيْلَزَمِ الصَّمْتَ". وفي الحكمة لسانك أسدك إن أطلقته فرسك، وإن أمسكته حرسك (فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يضع حجراً في فيه ليمنعه) أي أبا بكر (ذلك) أي الحجر (من الكلام بغير ضرورة) أي من غير ما ينفع في الدنيا والآخرة (ويشير إلى لسانه) وفي رواية يمسك لسانه (ويقول) أي عند الإشارة (هذا) أي اللسان (الذي أوردني الموارد) أي أحضرني المحال، فلما مات رضي الله عنه رئي في المنام فقيل له: ما الذي أوردك لسانك؟ قال: قلت به لا إله إلا الله فأوردني الجنة (فاحترز منه) أي آفات اللسان (بجهدك) بفتح الجيم أي طاقتك (فإنه) أي اللسان (أقوى أسباب هلاكك في الدنيا والآخرة) وفي الحديث طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وروى عن الأوزاعي أنه قال: المؤمن يقل الكلام ويكثر العمل، والمنافق يكثر الكلام ويقل العمل، وقد قال أبو بكربن خلف اللخمي نظماً من بحر الطويل:
يَمُوتُ الفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ مِنْ لِسَانِهِ >< وَلَيْسَ يَمُوتُ المَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بَرَأسِهِ >< وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَا عَلَى مَهْلِ
(وأما البطن فاحفظه من تناول الحرام والشبهة) فالحرام المحض ما يكون به علم لك أو غالب ظن بكونه منهياً عنه في الشرع، وإذا تساوت الإمارتان الدالتان على الحل والحرمة حتى تبقى شاكاً، لا يكون لأحدهما ترجيح عندك، فذلك شبهة يشبه أنه حلال، ويشبه أنه حرام فاشتبه أمره عليك، كذا في منهاج العابدين. وقال إبراهيم الشبرخيتي قد اختلفوا في الشبهة على أقوال فقيل: هو ما اختلف فيه العلماء، كالخيل فإنها محرمة عند مالك، ومباحة عند غيره. وقيل: هو المكروه. وبه قال الماوردي، لأنه عقبة بين الحلال والحرام فالورع تركه. وقيل هو معاملة الإنسان من في ماله شبهة، أو من خالط ماله حرام، وبه قال الخطابي، وقيل: هو ما لم يرد فيه نص من الشارع بتحليل ولا تحريم كنبات غير مألوف، لم تعرف العرب هل هو مضر أم لا (واحرص) أي اجتهد (على طلب الحلال) فقد قال صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ الحَلالِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِم" رواه ابن مسعود. والحلال فسره الإمام مالك والشافعي بما لم يرد بتحريمه دليل. وأبو حنيفة بما دل دليل على حله وتظهر ثمرة الخلاف في المسكوت عنه الذي جهل أصله، فعند مالك والشافعي هو من الحلال، إذ هو الأشبه بيسر الدين، وعند الحنفي هو من الحرام (فإذا وجدته) أي الحلال (فاحرص على أن تقتصر منه على ما دون الشبع) ومراتب الأكل سبعة: الأول أن يأكل ما تحصل به الحياة فقط. الثاني أن يزيد على ذلك مقدار ما يحصل له به قوة على أداء الفرائض الخمس من قيام دون النوافل، وهذان واجبان، ومثلهما أكل ما يقويه على الصيام الواجب. الثالث أن يأكل ما تحصل له به قوة على صيام النفل، وصلاة النافلة من قيام، وهذا مستحب. الرابع أن يأكل ما يقيم به صلبه للكسب والعمل، وهذا هو الشبع الشرعي. الخامس أن يملأ ثلث بطنه وهو ستة أشبار، لأن مصران الإنسان طوله ثمانية عشر شبراً، وهذا هو الشبع المعتاد، وهذا لا كراهة فيه إن أكل من طعام نفسه، وأما إن أكل على مائدة الغير، فقال القرافي: إن ذلك حرام فإن الزيادة على الشبع الشرعي لا تجوز إلا أن يعلم رضا الداعي بأكل الزائد، فله أن يأكل ما شاء. السادس أن يأكل زيادة على قدر ثلث المصران، وهو مكروه وبه يحصل للإنسان الثقل والنوم، وعلى هذا القسم غالب عادة الناس. السابع أن يأكل زيادة على ذلك إلى أن يتضرر وهو البطنة، وهذا حرام كذا في شرح المنظومة لابن العماد.
     (فإن الشبع) أي المعتاد (يقسي القلب) الفاء للتعليل (ويفسد الذهن) أي الفطنة (ويبطل الحفظ) أي التيقظ (ويثقل الأعضاء عن العبادة والعلم) أي الاشتغال بهما (ويقوي الشهوات) وهو اشتياق النفس إلى الشيء (وينصر جنود الشيطان) وهي عشرة: الظلم والخيانة والكفر، وترك حفظ الأمانة والنميمة والنفاق، والخديعة والشك في الواحد الخلاق، والمخالفة لما أمر به ذو الجلال والإكرام، والتغافل عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كذا أفاده الهمداني. قال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. قال بعض الحكماء: من كثر أكله كثر شربه، ومن كثر شربه كثر نومه، ومن كثر نومه كثر لحمه، ومن كثر لحمه قسا قلبه، ومن قسا قلبه غرق في الآثام (والشبع من الحلال مبدأ كل شر فكيف من الحرام) قال الشعراني: فإن أكل الحرام أو الشبهة يظلم القلب، ويحجبه عن دخول حضرة الله تعالى ويخلق الثياب (وطلب الحلال فريضة على كل مسلم). وهذه الفريضة من بين سائر الفرائض أعصاها على العقول فهماً، وأثقلها على الجوارح فعلاً، إذ ظن الجهال أن الحلال مفقود، وأن سبيل الوصول إليه مسدود، وهيهات هيهات فالحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، ولا تزال هذه الثلاثة. مقترنات كيفما ثقلت الحالات كذا في الإحياء (والعبادة والعلم من أكل الحرام كالبناء على السرجين) بكسر السين أي الزبل. وقال إبراهيم بن أدهم: طيب مطعمك وما عليك بعد ذلك أن لا تصوم النهار، ولا تقوم الليل يعني نفلاً (فإذا قنعت) بكسر النون أي رضيت (في السنة بقميص خشن وفي اليوم والليلة برغيفين من الخشكار) أي الرديء من كل شيء أو من شعير (وتركت التلذذ بأطيب الآدم) بضمتين جمع أدام ككتب وكتاب، وهو ما يسيغ الطعام إلى الحلق كاللحم مثلاً، فإنه إدام للخبز مثلاً (لم يعوزك) أي لم يعجزك (من الحلال ما يكفيك) أي من اللباس والقوت والإدام (والحلال كثير) فليس الأمر كما قال الجهال لم يبق من الطيبات إلا الماء الفرات والحشيش النابت في الموات، وما عداه فقد أخبثته الأيدي العادية، وأفسدته المعاملات الفاسدة. (وليس عليك أن تتيقن) وفي نسخة أن تنقب أي تفتش (بواطن الأمور بل عليك) أي الزم (أن تحترز مما تعلم) أي تتيقن (أنه) أي هذا المال (حرام) وهو ما منع منه شرعاً إما لصفة في ذاته ظاهرة كالسم والمر، أو حفية كمذكي المجوسي، وإما لخلل في تحصيله كالربا والغصب والسرقة (أو تظن أنه) أي المال (حرام ظناً) غالباً (حصل من علامة ناجزة) أي ظاهرة (مقرونة بالمال) وفي نسخة مقدرة بالمال، وهذا من الحرام المحض على ما حسنه الغزالي، لأن غلبة الظن منا تجري مجرى العلم في كثير من الأحكام وقيل: إن هذا من الشبهات، لأنه لم يوجد منه يقين في الحرمة. (أما) المال (المعلوم) أي المتيقن حرمته أو حله (فظاهر) أي متضح في الحرمة كالمذكور قريباً ومنكشف في الحل، كالمأخوذ من التراضي، إما بعوض كالبيع والصداق والأجرة، وإما بغير عوض كالهبة والصدقة والوصية، والمأخوذ كرهاً إما لسقوط عصمة المال كالغنائم وسائر أملاك الكفار الذين ليس لهم أمان وعهد وذمة، فهذا حلال إذا أخرجوا منه الخمس، وقسموه بين المستحقين بالعدل، أو لاستحقاق الآخذ كالزكاة من الممتنعين والنفقات الواجبات، هذا كله مأخوذ من المالك، والمأخوذ من غير مالك كالأشياء المباحة التي لم يسبق عليها ملك لأحد كالاصطياد والاحتطاب والاحتشاش، والاستقاء من الأنهار وإحياء الموات وهذا كله مأخوذ بالاختبار، والمأخوذ بغير الاختيار كالإرث، فهذا كله حلال إذا روعيت شروط الشرع في تحصيله
(وأما) المال (المظنون) في حرمته (بعلامة فهو مال السلطان و) مال (عماله) أي السلطان، وهو جمع عامل وهو من يتولى على البلاد كالباشا والقائم مقامه لعدم تيقن حرمته، واختلف العلماء في جوائزهم في هذا الزمان فقيل: يجوز لنا أخذها لعدم تيقن حرمتها. وقيل: لا يحل لأن الأغلب في هذا الزمان على أموالهم الحرمة. وقيل: إن صلاتهم تحل للغني والفقير إذا لم يتحقق أنها حرام، وإنما التبعة على المعطي. وقيل: لا يحل من أموالهم شيء لغني ولا لفقير إذ هم موسومون بالظلم، والغالب على أموالهم الحرام، والحكم للغالب. وقيل: يحل ذلك للفقير فقط إلا أن يعلم أنه عين الغصب، فليس له أن يأخذ مالاً إلا ليرده على مالكه، ولا حرج على الفقير أن يأخذ من أموال السلطان، لأنها إن كانت ملكه، فلا ريب في حل أخذ الفقير، وإن كانت من فيء عشر، فللفقير فيه حق وكذلك لأهل العلم. قال عليبن أبي طالب: من دخل الإسلام طائعاً، وقرأ القرآن ظاهراً، فله في بيت مال المسلمين كل سنة مائة درهم، إن لم يأخذها في الدنيا أخذها في الآخرة، وإذا كان كذلك فالفقير والعالم يأخذان حقهما. قال العلماء: إذا كان المال مختلطاً بمال مغصوب لا يمكن تمييزه أو غصباً لا يمكن رده على صاحبه وذريته، فلا مخلص للسلطان منه إلا بأن يتصدق به، فأذن للفقير أن يأخذ الأعين الغصب والحرام، فليس له أخذه وهذه المسائل لا يمكن الفتوى فيها إلا ببسط، وتحقيق هذا تلخيص ما في منهاج العابدين (ومال من لا كسب له إلا من النياحة) بكسر النون، أي من أجرة البكاء على الميت (أو بيع الخمر) ونحوها من المحرمات (أو) من تحصيل (الربا أو) من لهو كـ (المزامير وغير ذلك من آلات اللهو المحرمة فإن من علمت أن أكثر ماله) أي من لا كسب له إلا بتلك (حرام قطعاً) أي جزماً بلا شك (فما تأخذه من يده وإن أمكن أن يكون) المأخوذ (حلالاً نادراً) أي في النادر أي القليل (فهو حرام لأنه الغالب على الظن) قال الشبرخيتي في الفتوحات الوهبية نقلاً عن مختصر إحياء علوم الدين، ومن جملة المتشابه أن يكون الشيء مما قد اشترى في الذمة، ولكن قضى ثمنه من مال حرام إلا أن يكون تسلم الطعام قبل دفع ثمنه بطيب قلب، وأكله قبل قضاء الثمن فهو حلال بالإجماع، ولا ينقلب بأداء المال في مقابلته من الحرام حراماً، بل غايته أنه لا تبرأ ذمته، فكأنه لم يقض الثمن فلا يحرم ما أكله
     (ومن الحرام المحض) أي الخالص الذي لا يخالطه حلال (ما يؤكل من الأوقاف من غير شرط الواقف) لقولهصلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُروطِهِم" (فمن لم يشتغل بالتفقه فما يأخذه من المدارس) أي من الأموال الموقوفة على من اشتغل بحال درس العلم (حرام) لأنه لم يستحق المأخوذ لأن الموقوف على مشتغل بالعلم يحمل على المشتغل بالفقه، لأن العلم الشرعي ثلاثة: الفقه والحديث والتفسير (ومن ارتكب) أي أتى (معصية ترد بها شهادته) كقتل وزنى وقذف وشهادة زور وكإصرار على صغيرة (فما يأخذه باسم الصوفية من وقف أو غيره) كصدقة معينة على الصوفية (فهو حرام) لأنه لم يستحق ذلك، لأن الصوفية هم الذين وقفوا مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً (وقد ذكرنا مداخل الشبهات والحلال والحرام) وأصنافها ودرجاتها (في كتاب مفرد) وهو كتاب الحلال والحرام (من كتب إحياء علوم الدين فعليك بطلبه) أي الكتاب المفرد، لكن تلخيصه مسطور في هذا الشرح (فإن معرفة الحلال وطلبه فريضة على كل مسلم كالصلوات الخمس) لقولهصلى الله عليه وسلم: "طلب الحلال واجب على كل مسلم" رواه الديلمي عن أنس أي طلب معرفة الحلال من الحرام واجب، أو المعنى طلب الكسب الحلال واجب، كذا نقل العزيزي عن المناوي وقولهصلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ الحَلالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الفَرِيضَةِ" رواه الطبراني عن ابن مسعود، أي الكسب الحلال لمؤنة النفس والعيال فرض بعد الإيمان والصلاة، أو بعد جميع ما فرض الله فطلب ما يحتاجه لنفسه وعياله واجب دون ما زاد على الكفاية كما قاله العزيزي. وقولهصلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ الحَلالِ جِهَادٌ" رواه القضاعي عن ابن عباس أي ثوابه كثواب الجهاد (وأما الفرج فاحفظه عن كل ما حرم الله تعالى) كالزِّنى واللواط والمساحقة للمرأة مع مثلها والمفاخذة للرجل مع مثله، والاستمناء باليد والوطء في الحيض، وفي الطهر قبل الغسل منه وإتيان البهيمة (وكن كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ) في الجماع ومقدماته (حَافِظُونَ) أي دائماً لا يتبعونها شهوتها، والفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة، وحفظه التعفف عن الحرام (إلا على أزواجهم) اللاتي استحقوا مباضعتهن بعقد النكاح (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) رقابهن من الإماء (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) على ذلك إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي، وفي حال الحيض أو النفاس، أو نحو ذلك كوطء الأمة قبل الاستبراء، فإنه حرام ومن فعله فإنه ملوم (ولا تصل إلى) حقيقة (حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر) فيما لا يجوز شرعاً (وحفظ القلب عن التفكر) في محاسن ما يشتهي (وحفظ البطن عن الشبهة) وعن الحرام بطريق الأولى (وعن الشبع) كما مر تفصيله
     (فإن هذه) أي الأربعة التي هي: النظر والتفكر والشبهة والشبع (محركات للشهوة ومغارسها) أي أصولها (وأما اليدان فاحفظهما عن أن تضرب بهما مسلماً) أو ذمياً بغير مسوغ شرعي كالضرب في الوجه، أو تقتله بهما بمباشرة أو بسبب كحفر البئر عدواناً قال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأرْضِ اشْتَرَكُوا في دَمِ مُؤْمِنٍ لَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ" (أو تتناول بهما مالاً حراماً) كالحاصل بتطفيف الكيل والوزن بالسرقة (أو تؤذي بهما أحداً من الخلق) كالدعة والدفع (أو تخون بهما في أمانة أو وديعة) فالأمانة هي ما يستحفظ عند الأمين، والوديعة ما يكون عندك من مال الغير (أو تكتب بهما ما لا يجوز النطق به فإن القلم أحد اللسانين فاحفظ القلم عما يجب حفظ اللسان عنه) كما قال ذو النون المصري نظماً من بحر الوافر:
وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إلاَّ سَيَبْلَى >< وَيَبْقَى الدَّهْرَ ما كَتَبَتْ يَدَاهُ
فَلا تَكْتُبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ >< يَسُرُّكَ فِي القِيامَةِ أنْ تَرَاهُ
     (وأما الرجلان فاحفظهما عن أن تمشي بهما إلى حرام) كالمشي لأجل غيبة أو لتجسس عورات المسلمين (أو تسعى) أي تذهب (بهما إلى باب سلطان ظالم) مع الرضا بظلمه كذا قاله ابن حجر (فإن المشي إلى السلاطين الظلمة) بفتحات (من غير ضرورة) أي حاجة شرعية (وإرهاق) بالراء أي إتيان (معصية كبيرة) قوله فإن المشي تعليل للنهي عن السعي إلى باب السلطان، وفي نسخة فالمشي وقوله كبيرة خبره (فإنه) أي المشي إليهم (تواضع وإكرام لهم على ظلمهم وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنهم) أي الظلمة (في قوله تعالى {وَلاَ تَرْكُنُوا) أي لا تميلوا ولا تسكنوا) إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمُسُّكُمُ النَّارُ} الآية وهو) أي المشي إليهم (تكثير لسوادهم) أي لجماعتهم وإعانة لهم على ظلمهم، وفي الخبر خير الأمراء الذين يأتون العلماء، وشر العلماء الذين يأتون الأمراء، وفي الخبر: العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل، فاحذروهم واعتزلوهم. وقال أبو ذر: من كثر سواد قوم فهو منهم ومثل السلاطين عمالهم. قال الأوزاعي: ما من شيء أبغض الله من عالم يزور عاملاً (وإن كان ذلك) أي المشي إليهم (لسبب طلب مالهم فهو سعي إلى حرام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من تواضع لغني صالح لغناه ذهب ثلثا دينه) قيل: والمراد بالدين هنا الأدب، والمعنى أن الآداب ثلاثة أدب مع الله، وأدب مع رسول الله، وأدب مع عامة الناس، فإذا تواضع لغني ذهب الأدبان وهما: الأدب مع الله والأدب مع رسوله وبقي أدب واحد (وهذا) أي حصول ذهاب ثلث الدين (في غني صالح فما ظنك بالغني الظالم وعلى الجملة) أي أقول قولاً كائناً على الجملة (فحركاتك وسكناتك بأعضائك نعمة من نعم الله تعالى عليك فلا تحرك شيئاً) أي جزأً (منها) أي الأعضاء (في معصية الله تعالى أصلاً) أي بالكلية (واستعملها) أي الأعضاء (في طاعة الله تعالى) أي لتؤدي شكرها (واعلم أنك إن قصرت) أي توانيت في الطاعة (فعليك وباله) أي شدة تقصيرك (وإن شمرت) أي اجتهدت وأسرعت فيها (فإليك تعود ثمرته) أي فائدة تشميرك (والله غني عنك وعن عملك) فلا ينتفع الله بذلك (وإنما كل نفس بما كسبت) أي تصرفت وتحملت (رهينة) عند الله تعالى.
     وقال علي رضي الله عنه: من ظن أنه بدون الجهد يصل إلى الجنة، فهو متمن، ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو متعنَ (وإياك أن) تترك العمل فقد قال الحسن البصري: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب واحذر أن (تقول إن الله كريم) أي متفضل يعطي من غير مسألة ولا وسيلة (رحيم يغفر الذنوب للعصاة) أي بكرمه ورحمته (فإن هذه كلمة حق أريد بها باطل وصاحبها) أي هذه الكلمة (ملقب بالحماقة) أي الفساد في العقل (بتلقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: الكَيِّسُ) أي الظريف (مَنْ دَان) أي أذل وقهر (نَفْسَهُ) أي الأمارة أو اللوامة (وَعَمِلَ لما بَعْدَ المَوْتِ) من أنواع الطاعات (والأحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاها) أي ميلها (وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأمَانِي) أي الأكاذيب فقوله نفسه مفعول أول وهواها مفعول ثان، وفي ذلك قال الحسن البصري: إن أقواماً ألهتم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، وليست لهم حسنة، فيقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب أنه لو أحسن الظن بربه لأحسن العمل له (واعلم أن قولك هذا يضاهىء) بالهمز وتركه أي يشابه (قول من يريد أن يصير فقيهاً في علوم الدين من غير أن يدرس) بضم الراء أي يقرأ (علماً) من علوم الدين (واشتغل بالبطالة) أي التعطل (وقال: إن الله كريم رحيم قادر على أن يفيض) أي يظهر (على قلبي من العلوم ما أفاضه) أي أظهره (على قلوب أنبيائه وأوليائه من غير جهد) أي مشقة (وتكرار) أي للدرس (وتعلم) وفي بعض النسخ وتعلق، أي استمساك للعلوم. قال يحيىبن معاذ: من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب على رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله مع الإفراط، وقد نظم هذا المعنى من بحر البسيط:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا >< إِنَّ السَّفِينَةَ لا تَجْري عَلَى اليَبَسِ
      (وهو كقول من يريد مالاً فيترك الحراثة) أي الزراعة (والتجارة) أي التصرف في البيع والشراء (والكسب) أي طلب الزرق بصناعة ونحوها (ويتعطل) أي يبقى بلا عمل (وقال: إن الله كريم رحيم وله خزائن السموات والأرض وهو قادر على أن يطلعني على كنز من الكنوز) التي في الأرض (أستغني به) أي بذلك الكنز (عن الكسب فقد فعل) أي الله سبحانه وتعالى (ذلك) أي الاطلاع على الكنز (لبعض عباده) ممن يشاء الله تعالى (فأنت إذا سمعت كلام هذين الرجلين) من يريد علماً ومن يريد مالاً (استحمقتهما) أي عددتهما أحمقين (وسخرت) بكسر الخاء أي هزأت (منهما وإن كان ما وصفاه من كرم الله تعالى وقدرته صدقاً) أي غير كذب (وحقاً) أي صحيحاً ثابتاً في نفس الأمر، وذلك لأن الله تعالى أجرى لكل شيء يحتاج إليه الشخص سبباً وطريقاً يوصل لمراده، ولولا ذلك لما قال الله تعالى لسيدتنا مريم {وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تسَّاقطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيَّا} (مريم:25) فإن الله تعالى قادر أن يسقط رطباً على سيدتنا مريم من غير تحريك الجذع من مريم، إلا أن الله تعالى أجرى كل شيء على طريقه، ولذا قال بعضهم من بحر الطويل:
أَلَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمٍ >< وَهُزِّي إِلَيْكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبْ
وَلَوْ شَاءَ أَجْنَى الجِذْعَ مِنْ غَيْرِ هَزِّها >< وَل?كِنَّ هَزَّ الجِذْعِ كانَ هُوَ السَّبَبْ
(فكذلك يضحك عليك أرباب البصائر) أي أصحاب المعارف (في الدين إذا طلبت المغفرة) من الله تعالى (بغير سعي) أي كسب (لها) أي المغفرة وذلك خطأ وضلال (والله تعالى يقول) في سورة النجم (وَأَنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاَّ ما سَعَى) أي عمل (ويقول: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. ويقول: إِنَّ الأبْرَارَ) أي المؤمنين الصادقين في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى، واجتناب معاصيه (لَفِي نَعِيمٍ) أي محيط بهم أبد الآبدين (وَإِنَّ الفُجَّارَ) أي الذين من شأنهم الخروج عن رضا الله تعالى إلى سخطه (لفي جَحِيم) أي نار محرقة تتوقد غاية التوقد (فإذا لم تترك السعي في طلب العلم والمال اعتماداً على كرمه) سبحانه وتعالى (فكذلك لا تترك التزود للآخرة) من الأعمال الصالحات (ولا تفتر) بضم التاء بعد الفاء، أي لا تلن في العمل بعد شدتك، وفي بعض النسخ: ولا تغتر، أي لا تغفل عن العمل (فإن رب الدنيا والآخرة واحد وهو) أي الرب (فيهما كريم رحيم وليس يزيد له كرم بطاعتك) وفي نسخة بتمنيك (وإنما كرمه) سبحانه وتعالى (في أن ييسر لك طريق الوصول إلى الملك المقيم والنعيم الدائم المخلد بالصبر على ترك الشهوات أياماً قلائل) أي مدة حياتك في الدنيا (وهذا) أي التيسير (نهاية الكرم فلا تحدث نفسك) أي قلبك (بتهويسات البطالين) أي اعتمادات من لا عمل لهم (واقتد) في إكثار العبادات (بأولي العزم) أي العزيمة في الأمر (والنهي) أي العقول، وهو بضم النون وفتح الهاء جمع نهيه وسمي العقل بها (من الأنبياء والصالحين ولا تطمع في أن تحصد ما لم تزرع) فإن ذلك أمنية وليس برجاء قال تعالى: {ذ?لِكُمْ ظَنُّكُمُ وَالَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ} (فصلت: 2) (وليت من صام وصلى وجاهد واتقى) الله تعالى بترك المعاصي (غفر له) قال الله تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} (الكهف:110) أي فمن كان يخاف المصير إليه تعالى، أو من كان يأمل رؤية ربه، فليعمل عملاً يرتضيه الله تعالى ولو قليلاً (فهذه) أي المذكورات في القسم الثاني (جمل مما ينبغي أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة) أي السبعة المتقدمة وغيرها (وأعمال هذه الجوارح إنما تترشح) أي تنشأ (من صفات القلب فإن أردت حفظ الجوارح) أي الظاهرة (فعليك بتطهير القلب فهو تقوى الباطن) قال أحمدبن خضرويه، القلوب أوعية فإذا امتلأت من الحق ظهرت زيادة أنوارها على الجوارح، وإذا امتلأت من الباطل ظهرت زيادة ظلمتها على الجوارح (والقلب هو المضغة) أي قطعة لحم قدر ما يمضغ في الفهم، لكنها وإن صغرت في الصورة عظمت في الرتبة (التي إذا صلحت) أي بالإيمان والعلم والعرفان، وهو بفتح اللام وضمها والفتح أفصح وأشهر (صلح بها) أي بالمضغة (سائر الجسد) بالأعمال والأحوال (وإذا فسدت) أي بالجحود والكفران، وهو بفتح السين وضمها والفتح أفصح وأشهر (فسد بها سائر الجسد) بالفجور والعصيان، ومن ثم قيل: إن القلب كالملك والجسد والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده وأيضاً هو كالأرض وحركات الجسد كالنبات، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً وأيضاً هو كالعين، والجسد كالزرع إن عذب ماء العين عذب الزرع، وإن ملح ملح، ولما سأل عمربن عبدالعزيز رجلاً من رعيته: كيف حال أميركم؟ فقال له: يا أمير المؤمنين إذا طابت العين عذبت الأنهار، وإذا كان الأمر كذلك (فاشتغل بإصلاحه) أي القلب (لتصلح به جوارحك) أي الظاهرة (وصلاحه يكون بملازمة المراقبة) وهي استحضار القلب مع الله تعالى وانصراف الهمم إليه وقال بعضهم: صلاح القلب في خمسة أشياء: كثرة الجوع، وقراءة القرآن بتدبر المعنى، والتضرع بالبكاء عند السحر، والصلاة في الليل، ومجالسة الصالحين، ونظمها بعضهم من بحر البسيط فقال:
دَوَاءُ قَلْبِكَ خَمْسٌ عِنْدَ قَسْوَتِهِ >< فَدُمْ عَلَيْهَا تَفُزْ بِالخَيْرِ وَالظَّفَرِ
خَلاءُ بَطْنٍ وَقُرْآنٌ تُدَبِّرُهُ >< كَذَا تَضَرُّعُ بَاكٍ سَاعَةَ السَّحَرِ
كَذَا قِيامُكَ جُنْحَ اللَّيْلِ أَوْسَطَهُ >< وَأَنْ تُجَالِسَ أَهْلَ الخَيْرِ وَالخَيْرِ
وزاد بعضهم أشياء أخر ونظمتها من البسيط بقولي:
أَكْلُ الحَلالِ وَصَمْتٌ عُزْلَةٌ وَكَذَا >< تَرْكٌ لِخَوْضٍ بِمَا لِلنَّاسِ مِنْ سِيَرِ

القول في معاصي القلب
الخصال المذكورة تحت هذه الترجمة داخلة تحت القسم الثاني الذي هو اجتناب المعاصي، لأنها ظاهرة وباطنة، فالمذكورة هنا الباطنة (اعلم أن الصفات المذمومة في القلب كثيرة) لأن الإنسان اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي: السبعية والبهيمية والشيطانية والربانية، وكل ذلك مجموع في القلب، فيجتع في الإنسان خنزير وكلب وشيطان وحكيم، فالخنزير هو الشهوة، والكلب هو الغضب، والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير، وغيظ السبع، والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان، فطاعة خنزير الشهوة يصدر منها صفة الوقاحة والخبث، والتبذير والتقتير والرياء والهتكة، والمجانة والعبث والحرص، والجشع والملك والحسد، والحقد والشماتة وغيرها، وطاعة كلب الغضب ينتشر منها إلى القلب صفة الظهور والبذاءة والبذخ والصلف، والاشتشاطة والتكبر والعجب والاستهزاء، والاستخفاف وتحقير الخلق، وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها، وطاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب، يحصل منها صفة المكر والخداع والحيلة والدهاء، والجراءة والتلبيس والتضريب والغش، والخب والخنا وأمثالها، ولو قهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية لاستقر في القلب من الصفات الربانية، العلم والحكمة واليقين والإحاطة بحقائق الأشياء، ومعرفة الأمور على ما هي عليه (وطريق تطهير القلب من رذائلها) أي خسائسها أي الصفات المذمومة (طويلة وسبيل العلاج) أي المداواة (فيها) أي تلك الصفة (غامض) أي صعب (وقد اندرس) أي انمحى (بالكلية علمه) أي العلاج (وعمله لغفلة الخلق عن أنفسهم واشتغالهم بزخارف الدنيا) أي بزينتها، وهذا من عطف السبب على المسبب (وقد استقصينا ذلك) أي المذكور (كله) من الصفات المذمومة، وطريق تطهير القلب منها أي ذكرنا ذلك حتى بلغ أبعده (في كتاب إحياء علوم الدين في ربع المهلكات وربع المنجيات) فالمهلكات هي في الربع الثالث، والمنجيات هي في الربع الرابع (ولكنا نحذرك) أي نخوفك (الآن ثلاثاً من خبائث القلب وهي الغالبة على متفقهة العصر) أي هذا الزمن (لتأخذ منها حذرك) أي لتبعد عنها بتيقظك (فإنها) أي الثلاث (مهلكات في أنفسها وهي) أي الثلاث (أمهات) أي أصول (لجملة من الخبائث سواها وهي أي الثلاث :الحسد والرياء والعجب فاجتهد في تطهير قلبك منها) أي من هذه الثلاث (فإن قدرت عليها) أي على تطهيرها (فتعلم كيفية الحذر) أي الاحتراز (من بقيتها) أي الخبائث (من ربع المهلكات) أي الذي هو الربع الثالث (فإن عجزت عن هذا) أي تطهير القلب من هذه الثلاث (فأنت عن غيره) أي عن غير هذا من تطهير القلب عن جميع الخبائث (أعجز) أي أشد عجزاً (ولا تظنن أنك تسلم) أي من الإثم (بنية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب. وقد قال صلى الله عليه وسلم ثَلاثٌ) أي من الخصال منجيات خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر، والغنى وثلاث (مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ) أي بخل يطيع الإنسان فلا يؤدي ما عليه من حق الحق وحق الخلق (وَهَوًى) بالقصر (مُتَّبَعٌ) أي بأن يتبع ما يأمره به هواه (وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ) أي تحسينه فعل نفسه على غيره، وإن كان قبيحاً وهو فتنة العلماء، فأعظم بها من فتنة وقال أيضاً: ثلاث مهلكات وثلاث منجيات وثلاث كفارات وثلاث درجات.

المهلكات والمنجيات
     فأما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية، وأما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، أي شدة البرد، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام. وقال أيضاً: ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة الحسد والظن والطيرة، ألا أنبئكم بالمخرج منها: قالوا: أنبئنا. قال: إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض متوكلاً على الله (أما الحسد فهو متشعب) أي متفرع (من الشح) والحقد والغضب (فإن البخيل هو الذي يبخل ما في يده) من مال طلب بالشرع وبالمروءة إنفاقه (على غيره) وكان ذلك الغير محتاجاً (والشحيح هو الذي يبخل بنعمة الله تعالى وهي في خزائن قدرته تعالى لا في خزائنه على عباد الله تعالى فشحه أعظم) أي من البخل، لأن الشح هو أن يمنع أحداً عن إعطاء شخص كما يمنع نفسه عن الإعطاء (والحسود هو الذي يشق عليه) أي على نفسه (إنعام الله تعالى من خزائن قدرته على عبد من عباده بعلم أو مال أو محبة في قلوب الناس) ككثرة الأتباع (أو حظ من الحظوظ) كحصول المنصب ككونه والياً أو قاضياً أو مفتياً (حتى أنه) أي الحسود (ليحب زوالها) أي ذلك العبد (وإن لم يحصل له) أي للحسود (بذلك) أي الحب والتمني (شيء من تلك النعمة) أي لم ينتقل إليه شيء من المحبوب زواله والمتمني حصوله (فهذا) أي حب زوال النعمة عن العبد (منتهى الخبث) أي غاية القبح، وهذا أحد مراتب الحسد، والمرتبة الثانية أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة مثل رغبته في دار حسنة، أو امرأة جميلة أو ولاية نافذة، أو سعة من الرزق نالها غيره، وهو يحب أن تكون له، ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه، ومكروهه فقد النعمة لا تنعم غيره بها، والمرتبة الثالثة أن لا يشتهي عين تلك النعمة لنفسه، بل يشتهي مثلها فإن عجز عن مثلها أحب زوالها عن المنعم عليه، كي لا يظهر التفاوت بينه وبين غيره، فالشق الأول غير مذموم، وهو المسمى غبطة ومنافسة، والشق الثاني مذموم، والمرتبة الرابعة أن يشتهي لنفسه مثل تلك النعمة، فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عن المنعم عليه، وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا والمندوب إليه إن كان في الدين (فلذلك) أي لأجل كون الحسد غاية الخبث (قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحَسَدُ يأكُلُ الحَسَنَاتِ كما تَأَكُلُ النَّارُ الحَطَبَ) رواه ابن ماجة أي لما فيه من نسبة الرب إلى الجهل والسفه ووضع الشيء في غير محله (والحسود هو المعذب) أي في قلبه (الذي لا يرحم ولا يزال) أي الحسود (في عذاب دائم في الدنيا) والحسد يهيج خمسة أشياء أحدها فساد الطاعات، والثاني فعل المعاصي والشرور، والثالث التعب والهم من غير فائدة، والرابع عمى القلب حتى لا يكاد يفهم حكماً من أحكام الله تعالى، والخامس الحرمان ولا يكاد يظفر بمراده (فإن الدنيا) أي دارها (لا تخلو قط من خلق كثير من أقرانه ومعارفه ممن أنعم الله عليهم بعلم أو مال أو جاه) أي قدر (فلا يزال) أي الحسود (في عذاب دائم في الدنيا) وهم حصول الهم والهيام في العقل والوزر (إلى موته ولعذاب الآخرة أشد وأكبر) من العذاب الحاصل في الدنيا (بل لا يصل العبد إلى حقيقة) كمال (الإيمان ما لم يحب لسائر المسلمين ما يحب لنفسه) من الطاعات والمباحات الدنيوية، وسواء كان ذلك في الأمور الحسية كالغنى، أو المعنوية كالعلم (بل ينبغي أن يساهم) أي يشارك (المسلمين في السراء والضراء) ي في حال الخصب والجدب (فالمسلمون كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضاً وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائر الجسد) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُونَ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ، إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ". قال ابن بطال وغيره. المحبة على ثلاثة أقسام: محبة إجلال وتعظيم كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
     (فإن كنت لا تصادف) أي لا تجد (هذا) أي الحب (من قلبك فاشتغالك بطلب التخلص من الهلاك أهم) أي أحق بالاعتناء (من اشتغالك بنوادر الفروع) وهي الزائدة من الفرائض (وعلم الخصومات) أي علم ما يقطعها (وأما الرياء فهو الشرك الخفي) قالصلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا الشِّرْكَ الأَصْغَر قالوا وَمَا الشِّرْكُ الأصْغَرُ؟ قالَ الرِّياءُ". (وهو أحد الشركين) أي الخفي والجلي (وذلك) أي أصل الرياء (طلبك المنزلة في قلوب الخلق) بإيرائهم خصال الخير (لتنال بها) أي المنزلة (الجاه) أي القدر (والحشمة) أي الاستحياء أي لتكون معظماً بينهم (وحب الجاه من الهوى المتبع وفيه) أي بسبب حب الرياسة (هلك أكثر الناس فما أهلك الناس إلا الناس) أي بسبب طلبهم القدر من الناس (ولو أنصف) أي عدل (الناس حقيقة لعلموا أن أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات فضلاً عن أعمال العادات ليس يحملهم) أي يبعثهم (عليها) أي العلوم والعبادات وأعمال العادات (إلا مراءاة الناس وهي) أي المراءاة (محبطة للأعمال) أي لثوابها كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ المُرَائِي يُنَادَى يَوْمَ القِيَامَةِ بأربعةِ أسْمَاءٍ: ياكافِرُ يافاجرُ ياغَادِرُ ياخاسِرُ ضَلَّ سَعْيُكَ وَبَطَلَ أجْرُكَ، فلا خَلاقَ لَكَ اليَوْمَ الْتَمِسِ الأجْرَ مِمَّنْ كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ" (كما ورد في الخبر أن الشهيد يؤمر به يوم القيامة إلى النار فيقول يا رب استشهدت) بالبناء للمفعول أي قتلت شهيداً (في سبيلك) أي لإعلاء دينك (فيقول الله تعالى) كذبت (بل أردت أن يقال إنك) وفي بعض النسخ فلان (شجاع وقد قيل ذلك) لك (وذلك) أي المقول (أجرك وكذلك يقال للعالم والحاج والقارىء) كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قَدْ قَاتَلَ في سَبيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقَارِىء: أَلَمْ أَعْلِّمْكَ ما أنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ فَيَقُولُ؛ ماذا عَمِلْتَ فِيما عُلِّمْت؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قُمْتُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الملائِكَةُ: كَذَبْتَ، فَيَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلْ أَرَدْتَ أنْ يُقَالَ فُلانٌ قارِىءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذ?لِكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أَوسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إلى أحَدٍ؟ فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ. فَيَقُولُ فَمَا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ، وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الملائكةُ كَذَبْتَ، فَيَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلْ أَرَدْتَ أنْ يُقَالَ إِنَّكَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذ?لِكَ، وَيؤْتَى بالَّذِي قُتِلَ في سَبيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ما فَعَلْت؟ فيقولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ في سَبيلِكَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فيقولُ اللَّهُ تعالى: كَذَبْتَ وَتَقُولُ الملائكةُ كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أنْ يُقَالَ فُلانٌ جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ فَقَدْ قِيلَ ذ?لِكَ".
    واعلم أن المراءى به كثير يجمعه خمسة أقسام:
     الأول الرياء في الدين بالبدن كإظهار النحول، والصفار وتشعيث الشعر، ليدل بالنحول على قلة الأكل، وبالصفار على سهر الليل، وعظيم الحزن على الدين، وبالتشعث على استغراق الهم بالدين، وعدم التفرغ لتسريح الشعر. والثاني الرياء بالهيئة والزي كإطراق الرأس في المشي، والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقاً، ولبس المرقعة. والثالث الرياء بالقول كالنطق بالحكمة، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات، وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي، وتضعيف الصوت في الكلام، وترقيق الصوت بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن. والرابع الرياء بالعمل كمراءاة المصلي بطول القيام والسجود والركوع، وترك الالتفات، وإظهار السكون، وتسوية القدمين واليدين، وكذلك في الصوم أو الحج والصدقة وإطعام الطعام. والخامس المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين كالذي يتكلف أن يستزير عالماً أو عابداً أو ملكاً أو عاملاً من عمال السلطان ليقال إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين، وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخاً كثيرة، واستفاد منهم فيتباهى بشيوخه. (وأما العجب والكبر والفخر) أي التعاظم (فهو الداء العضال) بضم العين أي الشديد الذي أعيا الأطباء والعجب هو استعظام العمل الصالح.
     والكبر ينقسم إلى باطن وظاهر. فالباطن هو خلق في النفس وهو الاسترواح إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه، والظاهر هو أعمال تصدر من الجوارح، وإذا ظهر خلق الكبر على الجوارح، يقال: تكبر، وإذا لم يظهر يقال: في نفسه كبر، والكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به، وأما العجب فلا يستدعي غير المعجب، بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجباً، ولا يتصور أن يكون متكبراً إلا أن يكون مع غيره (وهو) أي الكبر (نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستعظام وإلى غيره بعين الاحتقار والذل) ولذلك يسمى الكبر أيضاً عزة وتعظماً أما لو استعظم نفسه، ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يكون مستكبراً عليه، ولو استحقر غيره، ومع ذلك رأى أن نفسه أحقر لم يتكبر، ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر، بل المتكبر أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره (ونتيجته) أي الكبر (على اللسان أن يقول أنا وأنا كما قال إبليس اللعين أنا خير منه) أي آدم (خلقتني من نار وخلقته) أي آدم (من طين) ومن قال أنا وقع في العنا (وثمرته) أي الكبر (في المجالس الترفع والتقدم) على عباد الله تعالى (وطلب التصدر) أي الارتفاع (فيها) أي المجالس (وفي المحاورة) أي المجاوبة (الاستنكاف) أي الامتناع (من أن يرد كلامه عليه والمتكبر هو الذي إن وعظ) بالبناء للمفعول أمر بالطاعة (أنف) بكسر النون أي استنكف من القبول (وإن وعظ) بالبناء للفاعل (عنف) بفتح النون أي في النصح، وإن رد عليه بشيء من قوله غضب، وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم، واستخدمهم وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالاً واستحقاراً (فكل من رأى) أي ظن (نفسه خيراً من أحد من خلق الله هو متكبر بل ينبغي) أي يجب (لك أن تعلم أن الخير من هو خير عند الله في دار الآخرة وذلك غيب) عن الخلق (وهو موقوف على الخاتمة) أي خاتمة الأمر حالة الموت وهو موت السعادة (فاعتقادك في نفسك أنك خير من غيرك جهل محض بل ينبغي) أي يندب (أن لا تنظر إلى أحد إلا وترى أنه خير منك وأن الفضل له على نفسك) فسبيلك في اكتساب التواضع أن تتواضع للأقران، ولمن دونهم حتى يخف عليك التواضع في محاسن العادات ليزول به الكبر عنك، فإن خف للأقران، ولمن دونهم حتى يخف عليك التواضع في محاسن العادات ليزول به الكبر عنك، فإن خف عليك ذلك فقد حصل لك خلق التواضع، وإن كان يثقل عليك ذلك وأنت تفعل ذلك فأنت متكلف لا متواضع، بل الخلق ما يصدر عنك الفعل بسهولة من غير ثقل، واعلم أن الخلق له طرفان وواسطة، فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً، وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسؤاً ومذلة، والوسط يسمى تواضعاً، والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسؤ. فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم
     وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها، فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر، ومن يتأخر عنهم فهو متواضع، أي وضع شيئاً من قدره الذي يستحقه، والعالم إذا دخل عليه سوقي مثلاً، فتنحى له عن مجلسه، وأجلسه فيه فقد تخاسأ أو تذلل، وهو غير محمود بل المحمود عند الله العدل، وهو أن يعطى كل ذي حق حقه، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه، ومن يقرب من درجته، فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام، والرفق في السؤال وإجابة دعوته، والسعي في حاجته وأمثال ذلك، وأن لا يرى نفسه خيراً منه، بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره فلا يحتقره (فإن رأيت صغيراً قلت) في قلبك (هذا) أي الصغير (لم يعص الله تعالى وأنا عصيته فلا شك أنه خير مني وإن رأيت كبيراً) أي شخصاً أكبر منك في السن، وهو متعبد (قلت هذا قد عبدالله تعالى قبلي فلا شك أنه خير مني) لأن العبادة المتوالية تتضاعف فإن الصلاة الأولى مثالها أجر واحد، والثانية لها أجران، والثالثة لها ثلاثة أجور، وهكذا أفاده بعضهم (وإن كان) أي الشخص الكبير (عالماً قلت هذا أعطى ما لم أعط) من العلم (وبلغ ما لم أبلغ) من الرتبة العالية (وعلم ما جهلت) من الأحكام (فكيف أكون مثله) في الدرجة، وأفاد بعضهم أن من انتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أولاد سيدنا الحسن أو الحسين، وهو غير عالم يفوق على غيره ممن يساويه في الرتبة بستين درجة، وأن العالم الذي لم ينسب إليهصلى الله عليه وسلم يفوق على غير العالم ممن انتسب إليهصلى الله عليه وسلم بستين درجة (وإن كان) أي الشخص الكبير في السن (جاهلاً) وعاصياً (قلت) في قلبك (هذا قد عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فحجة الله علي آكد) أي أشد وأقوى (وما أدرى بم يختم لي وبم يختم له) أي الجاهل من السعادة أو الشقاوة (وإن كان) أي الشخص الكبير في السن (كافراً قلت) في نفسك (لا أدري) ما يفعل به في المستقبل (عسى أن يسلم) أي الكافر غداً (ويختم له) أي الكافر (بخير العمل وينسل) أي يخرج (بإسلامه من الذنوب كما تنسل الشعرة من العجين وأما أنا والعياذ بالله فعسى أن يضلني الله تعالى) عن دين الإسلام (فاكفر فيختم لي بشر العمل فيكون هو) أي الكافر (غداً) أي في الآخرة عند الله خيراً مني، ويكون (من المقربين) قرباً معنوياً فيكون في أعلى الدرجات (وأكون) أنا (من المبعدين) من رحمة الله تعالى، وفي نسخة من المعذبين (فلا يخرج الكبر من قلبك إلا بأن تعرف أن الكبير من هو كبير عند الله تعالى وذلك) أي هذا العرفان (موقوف على الخاتمة) الحسنى (وهي مشكوك فيها) عندك (فيشغلك خوف الخاتمة) السوء (عن أن تتكبر مع الشك فيها على عباد الله تعالى) والجار والمجرور الأول متعلق بيشغك، والثاني متعلق بتتكبر، والظرف متعلق بمحذوف حال من خوف الخاتمة، أي مصحوباً بالشك فيها (فيقينك) في نفسك وفي غيرك بالخير أو الشر (وإيمانك في الحال لا يناقض تجويزك التغير في الاستقبال) أي في آخر العمر (فإن الله تعالى مقلب القلوب يهدي من يشاء) فيختم له بخاتمة السعادة (ويضل من يشاء) فيختم له بخاتمة الشقاوة، وقال بعضهم في شرح وصية الشيخ الكامل إبراهيم المتبولي، وكمال مقام التواضع لا يحصل إلا بشهود العبد في نفسه أنه دون كل أحد من المسلمين، وأنه ليس على وجه الأرض أحداً أكثر عصياناً، ولا أقل أدباً وحياء منه على سبيل اليقين لا على سبيل الظن، فإن من رأى نفسه فوق أحد من العصاة على غير وجه الشكر لله تعالى، فقد شرع في درجات الكبر، وقد أجمع العارفون على أن من عنده شيء من الكبر، لا يصح له المداومة على دخول حضرة الله تعالى أبداً، ولو عبدالله تعالى في الظاهر عبادة الثقلين انتهى. واعلم أن الإنسان لا يستعظم نفسه إلا وهو يعتقد أن لها صفة من صفات الكمال دينية أو دنيوية، فأسباب الكبر سبعة: الأول العلم قالصلى الله عليه وسلم: "آفَةُ العِلمِ الخُيَلاَءُ" والعلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه، وخطر الخاتمة وحجة الله على العلماء، وعظم خطر العلم. والثاني العمل والعبادة فالعلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات: الأولى أن يكون الكبر مستقراً في قلبه يرى نفسه خيراً من غيره، إلا أنه يجتهد ويتواضع، ويفعل فعل من يرى غيره خيراً من نفسه، وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر، ولكنه قطع أغصانها بالكلية، الثانية أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران، وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه وأدنى ذلك في العالم أن يصغر خده للناس، كأنه معرض عنهم، وفي العابد أن يعبس وجهه كأنه متنزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم. الثالثة أن يظهر الكبر على لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة وتزكية النفس كأن يقول العابد لغيره من هو وما عمله، ومن أين زهده؟ ويقول: إني لم أفطر منذ كذا وكذا، ولا أنام الليل، وكان يقول العالم: أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق، ورأيت من الشيوخ فلاناً وفلاناً، من أنت وما فضلك ومن لقيت، وما الذي سمعت من الحديث. والسبب الثالث النسب فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب، وإن كان أرفع منه عملاً وعلماً. والرابع الجمال وذلك أكثر ما يجري بين النساء، ويدعو ذلك إلى الغيبة وذكر عيوب الناس. والخامس المال وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم، وبين التجار في بضائعهم وبين الدهاقين في أراضيهم وبين المتحملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم. والسادس القوة والتكبر بها على أهل الضعف. والسابع الأتباع والتلامذة والأقارب ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود، وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين، فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالاً، وإن لم يكن في نفسه كمالاً أمكن أن يتكبر به حتى أن الفاسق قد يفتخر بكثرة الفجور بالنسوان، ويتكبر به لظنه أن ذلك كمال وإن كان مخطئاً فيه (والأخبار في الحسد والكبر والرياء والعجب كثيرة ويكفيك فيها) أي هذه الأربعة (حديث واحد جامع) لتلك الأربعة (فقد روى) القاضي المروزي وعبدالله (ابن المبارك) رحمهما الله تعالى (بإسناده) أي ابن المبارك (عن رجل) وهو خالدبن معدان (أنه قال لمعاذ)بن جبل رضي الله عنه، الذي قال في حقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعْلَمُكُمْ بِالحَلاَلِ وَالحَرَامِ مُعَاذُبْنُ جَبَل": يا معاذ (حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) فحفظته وذكرته في كل يوم من شدته ودقته (قال) أي ذلك الرجل (فبكى معاذ) بكاءً طويلاً (حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم قال) أي معاذ تلهفاً (واشوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى لقائه ثم قال) أي معاذ (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقول: "الحَمدُ للَّهِ الَّذي يَقْضِي في خَلْقِهِ ما يَشَاءُ وَهو راكبٌ وَقَدْ أرْدَفني خَلْفَهُ رافعاً بصَرَهُ إلى السماء"، ثم (يقول لي: يا مُعاذُ إنّي مُحَدِّثُكَ بحديثٍ) أي واحد (إِنْ أنْتَ حَفِظْتَهُ نَفَعَكَ عِنْدَ اللَّهِ) أي في الدارين (وَإِنْ أنْتَ ضَيَّعْتَهُ) أي نسيته (وَلَمْ تَحْفَظْهُ انْقَطَعَتْ حُجَّتُكَ عندَ اللَّهِ تعالى يَوْمَ القِيامَةِ، يا مُعَاذُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى خَلقَ سَبْعَةَ أمْلاكِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّمو?اتِ وَالأرْضَ)
     ثم خلق السموات (فَجَعَل لِكُلِّ سَماءِ مِنَ السَّبْعِ مَلَكاً بَوَّاباً) خازناً (عليها) أي كل سماء فكان لك ملك على قدر الباب وجلالته (فتصعدُ لحَفَظَةُ بِعمَلِ العَبْدِ) الكائن (مِنْ حين يصبحُ إلى حين يُمْسِي له) أي لذلك العمل (نورٌ كَنُورِ الشَّمْسِ حتى إذا صَعِدَتْ) أي الحفظة (به) أي بذلك العمل (إلى السَّمَاء الدُّنيا) أي القربى من الأرض، وانتهى إلى الباب وله مصراعان من ذهب، ومغاليقها من نور ومفاتيحها اسم الله الأعظم (زَكَّتْهُ) أي مدحته (وَكَثَّرَتْهُ) أي عدته كثيراً (فيقولُ الملكُ الموكلُ بها) أي السماء الدنيا (للحفظةِ اضْرِبُوا به?ذا العملِ وَجْهَ صاحبهِ أنا) ملك (صاحِبُ الغِيَبةِ أمرني ربي أن لا أدَعَ) أي أترك (عَمَلَ مَنِ اغتابَ الناسَ يجاوزني إلى غَيْرِي) من بواب آخر (قالَ)صلى الله عليه وسلم: (ثم تأتي الحفظة) من الغد (بعمل صَالِح) أي خال من إثم الغيبة (من أعمال العَبْدِ لهُ نورٌ فتزكيه وتكثره حتى) يجاوز السماء الأولى و(تبلغَ بهِ) أي بذلك العمل (إلى السَّماءِ الثانيةِ) واسمها الماعون وهي من حديد أو مرمرةٍ بيضاء (فيقول لهم الملكُ الموكلُ بها) أي بالسماء الثانية واسمه روبائيل (قِفُوا وَاضْرِبُوا بهذا العلمِ وجهَ صاحِبهِ إنه) أي صاحب هذا العمل (أرادَ بعملهِ عَرَضَ الدُّنيا) أي منفعتها (أنا ملكُ الفخْرِ) أي أنا الملك الموكل باحتراز الفخر (أمرني رَبي أن لا أدعَ عملهُ) أي هذا المفتخر (يجاوزني إلى غيري) من بواب آخر (إنهُ كان يفتخرُ على النّاسِ في مجالسهم) فتلعنه الملائكة حتى يمسي (قال)صلى الله عليه وسلم: (وتصعد الحفظةُ بعملِ العَبْدِ يَبْتَهِجُ) أي يضيء (نوراً من صدقة وصلاة وصيام) وكثير من البر (قد أعجب) أي ذلك العمل (الحفظةَ فيجاوزون بهِ) أي العلم السماء الأولى، والثانية وانتهوا به (إلى السماء الثالثة) وهي من نحاس. وقيل من حديد ويقال لها هاربوت وتسبيح أهلها سبحان الحي الذي لا يموت. ومن قالها كان له مثل ثوابهم (فيقولُ لهم الملكُ الموكلُ بها) أي بالسماء الثالثة (قفوا واضربوا بهذا العلم وجه صاحبه أنا ملك الكبر) أي ملك صاحب الكبر (أمرني رَبي أن لا أدعَ عَمَلَهُ يجاوِزُني إلى غيري) أي من بواب بعدي (إنهُ كانَ يتكبرُ على النّاسِ في مجالسهم قال)صلى الله عليه وسلم: (وتصعدُ الحفظةُ بعملِ العَبْدِ يَزْهُو) أي يضيء (كما يَزْهُو الكوكبُ الدُّرِّيُّ) بضم الدال وكسرها أي المضيء (وله دَوِيٌّ) أي حفيف كحفيف النحل وحفيف جناح الطائر وحفيف الريح (من تسبيح وصلاةٍ وصيامٍ وَحَجّ وعمرةٍ حتى يجاوزوا به) السماء الثالثة وانتهوا به (إلى السَّماء الرَّابعة) وهي من نحاس وقيل من فضة ويقال لها الزاهر وتسبيح أهلها سبحان الملك القدوس. من قالها كتب له مثل ثوابهم (فيقولُ لهم الملكُ الموكلُ بها) أي بالسماء الرابعة (قفوا وَاضْرِبُوا بهذا العمل وجهَ صاحبهِ وظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ أنا) ملك (صاحبُ العُجْبِ أمرني ربي أن لا أدعَ عمله يجاوزني إلى غيري) من بواب بعدي (إنه كان إذا عمل عملاً أدْخَلَ العُجْبَ فيهِ) أي في ذلك العمل (قال)صلى الله عليه وسلم: (وتصعدُ الحفظةُ بعمل العبد) من جهاد وحج وعمرة له ضوء كضوء الشمس (حتى يجاوزوا به) من السماء الرابعة (إلى السماء الخامسة) وهي من فضة وقيل من ذهب. ويقال لها المسهرة وذلك العمل يزف (كأنهُ العَرُوسُ المزفوفة إلى بَعْلِها) أي زوجها (فيقولُ لهم الملكُ الموكلُ بها) أي السماء الخامسة (قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه) وهو محل الرداء وهو ما بين المنكب والعنق (أنا مَلَكُ الحَسَدِ إنَّهُ كانَ يحسدُ مَنْ يَتَعَلَّمُ وَيَعْمَلُ بمثلِ عملهِ وكلُّ مَنْ كانَ يأخُذُ) أي يفعل (فضلاً مِنَ العبادةِ كان يَحْسُدُهُمْ وَيَقَعُ) أي يغتاب (فيهم) وفي منهاج العابدين فيقول الملك أنا ملك صاحب الحسد، إنه كان يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد سخط ما رضي الله (أمرني رَبي أن لا أدعَ عَمَلَهُ يجاوزني إلى غيري) من بعد هذه السماء (قال)صلى الله عليه وسلم (وَتَصْعَدُ الحفظةُ بعمل العَبْدِ له ضوءٌ كَضَوْءِ الشَّمْسِ من) وضوء تام و(صلاة) كثيرة (وزكاة وحج وعمرة وجهاد وصيام فيجاوزون به) أي بذلك العمل من السموات الخمس (إلى السماء السادسة) وهي من ذهب وقيل من جوهر ويقال لها الخالصة (فيقولُ لهم الملكُ المُوَكَّلُ بها) أي بالسماء السادسة واسمه طوطئيل (قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنساناً قطّ من عباد الله أصابه بلاءٌ أو مرضٌ بل كان يَشْمَتُ بهِ) بفتح الميم أي يفرح بمصيبة نزلت بالإنسان (أنا مَلَكُ الرَّحْمَةِ) أي أنا ملك صاحب الرحمة (أمرني ربي أن لا أدعَ عملهُ يجاوزني إلى غيري) من خازن بعدي
     (قال)صلى الله عليه وسلم: (وتصعدُ الحفظةُ بعمل العبدِ من صَوْمٍ وصلاة ونفقة) أي كثيرة في سبيل الله (وجهاد) لإعلاء دين الله (وورع) أي نقاء من الحرام والشبهة (له) أي لذلك العمل (دوي) أي صوت خفي (كَدويِّ النحل وضوء كضوء الشمس) وفي منهاج العابدين له صوت كصوت الرعد وضوء كضوء البرق (ومعه) أي ذلك العمل (ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به) من السموات الستة (إلى السَّماء السابعة) وهي من ياقوتة حمراء ويقال لها اللابية، وتسبيح أهلها سبحان خالق النور، ومن قالها كان له مثل ثوابهم (فيقولُ لهم الملكُ الموكلُ بها) أي بتلك السماء السابعة (قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واضربوا جوارحه) أي أعضاءه التي يكتسب بها (وَأَقْفِلُوا) أي اغفلوا واضربوا (به) أي بذلك العمل (على قلبه أنا صاحبُ الذكر) أي السمعة والصيت في الناس (فإني أحجبُ عن ربي كلَّ عَمَلٍ لم يُرَدْ) أي لم يقصد (به وَجْهُ رَبي إنه إنّما أرادَ بعمله غيرَ اللَّهِ تعالى إنه أراد به) أي بذلك العمل (رفعة عند الفقهاء) وعند القرناء (وذِكراً) في المجالس (عندَ العلماء) وجاهاً عند الكبراء (وصيتاً) بكسر الصاد أي ذكراً جميلاً بين الناس منتشراً (في المدائن) أي البلدان (أمرَني رَبي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري) من الحجب التي بعد هذا الباب (وكلُّ عمل لم يكنْ للَّهِ تعالى خالصاً فهو رياءٌ ولا يقبلُ اللَّهُ عَمَلَ المرائي قال)صلى الله عليه وسلم: (وتصعدُ الحفظةُ بعمل العبدِ من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وَخُلُقٍ حَسنٍ وَصمت) أي سكوت عما لا ينفع في الدنيا والآخرة (وذكر لله تعالى) في السر والجهر (فتشيعه) أي تتبعه (ملائكة السَّم?وَاتِ السَّبْعِ حتى يَقْطَعُوا) أي يجاوزوا (به) أي بذلك العمل (الحُجُبَ كلها إلى الله تعالى فيقفون بين يديه) جل جلاله (ويشهدون له) أي ذلك العبد (بالعمل الصالح المخلص لله تعالى) أي بحسب علمهم (فيقول الله تعالى) لهم (أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب) أي الحافظ (على ما في قلبه إنَّهُ لم يُرِدْني بهذا العَمَلِ وإنما أراد به غيري) وما أخلصه لي، وأنا أعلم بما أراد من عمله عليه لعنتي غر الآدميين وغركم ولم يغرني وأنا علام الغيوب المطلع على ما في القلوب لا تخفى علي خافية ولا تعزب عني عازبة، علمي بما كان كعلمي بما يكون، وعلمي بما مضى كعلمي بما بقي، وعلمي بالأولين كعلمي بالآخرين، أعلم السر وأخفى، فكيف يغرني عبدي بعمله، إنما يغر المخلوقين الذين لا يعلمون الغيب، وأنا علام الغيوب (فَعَلَيْهِ لعنتي فتقولُ الملائكة كُلُّها) أي ملائكة السموات السبع المشيعون يا ربنا (عَلَيْهِ لَعْنَتُكَ وَلَعْنَتُنا فتلعنهُ السَّم?وَاتُ السَّبْعُ وَمَنْ فيهنَّ ثم بكى معاذ) رحمه الله (وَانْتَحَبَ) أي رفع صوته بالبكاء (انتحاباً شديداً وقال معاذ قلت يا رسول الله أنت رسول الله) أي أنت معصوم من الذنوب (وأنا معاذ)بن جبل أي لست بمعصوم (فكيفَ لي بالنجاة والخلاص من ذلك) أي المذكور من الغيبة والفخر والكبر والعجب والحسد والسمعة والرياء (قال)صلى الله عليه وسلم: يا معاذ (اقْتَدِ بي) أي في اليقين (وإن كانَ في عَمَلِكَ نَقْصٌ) أي قصور (يا معاذُ حَافِظْ على لسانِكَ مِن الوَقيعةِ) أي الغيبة (في إخوانك من حَمَلَةِ القرآنِ خاصَّةً) أي وفي الناس عامة (واحْمِلْ ذنوبَكَ عليك) وفي نسخة على عاتقك (ولا تَحْمِلْهَا) أي الذنوب (عليهم) أي الإخوان (ولا تُزَكِّ نَفْسَكَ) متلبساً (بذمِّهم) أي الإخوان (ولا ترفع نفسك عليهم بوضعهم) على سبيل التكبر (ولا تُدْخِلْ عملَ الدُّنيا) كطلب منفعتها (في عمل الآخرة) من نحو طلب العلم (ولا تُرَاءِ بعملكَ) كي تعرف في الناس، بل أره ليقتدى بك، ولا تدخل في الدنيا دخولاً ينسيك أمر الآخرة (ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذرَ الناسُ من سُوءِ خُلُقِكَ) وفي منهاج العابدين ولا تفحش في مجلس حتى يحذروك من سوء خلقك، ولا تمن على الناس (ولا تناجِ رَجُلاً) وفي نسخة خلاً بكسر الخاء أي صديقاً (وَعِنْدَك آخَرُ) أي رجل واحد فقط (ولا تَتَعَظَّمْ على النَاسِ فتنقطعَ عَنْكَ خيراتُ الدنيا والآخرة) من نحو المال والعلم لتجنبهم عنك، ولعدم تواضعك (ولا تمزق الناسَ بلسانك) أي لا تغتب ولا تشتم (فَتُمَزِّقَكَ كلابُ النَّارِ) أي جهنم (يوم القيامة في النار قال الله تعالى {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} هل تدري ما هنَّ) أي الناشطات (يا معاذ قلت ما هي بأبي أنت وأمي) أي أنت مفدًى بأبي وأمي، فالباء للتعدية (يارسول الله قال)صلى الله عليه وسلم: هن (كلابٌ في النَّارِ تنشط اللحمَ) أي تنزعه (من العَظْمِ. قلتُ بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله من يطيقُ ه?ذِه الخصالَ وَمَنْ يَنْجُو منها قال)صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ إنَّهُ) أي الذي وصفت لك (لَيَسِيرٌ على مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تعالى عليه إنما يكفيكَ من ذلك) أي المذكور (أنْ تُحِبَّ للناسِ) من الأمور الأخروية (ما تحبُّ لنفسكَ وتكرهُ لهم ما تكرهُ لِنَفْسِكَ فإذَنْ أنْتَ يا معاذُ قَدْ سَلِمْتَ) ونجوت (قال خالدبن معدان) رحمه الله (فما رأيت أحداً أكثر تلاوة للقرآن العظيم من معاذ لهذا الحديث العظيم) نبؤه الكبير خطره الأليم أثره الذي تطير له القلوب وتحير له العقول، وتضيق عن حمله الصدور، وتجزع لهوله النفوس
     (فتأمل أيها الراغب في العلم هذه الخصال) واعتصم بمولاك إله العالمين، والزم الباب بالتضرّع والابتهال، والبكاء آناء الليل، وأطراف النهار مع المتضرعين المبتهلين، فإنه لا نجاة من هذا الأمر إلا برحمته، ولا سلامة من هذا البحر إلا بعنايته، فجاهد نفسك في هذه العقبة المخوفة، لعلك لا تهلك مع الهالكين (واعلم أن أعظم الأسباب في رسوخ) أي ثبوت (هذه الخبائث) أي التي هي الغيبة والفخر والكبر والعجب والحسد والسمعة والرياء (في القلب طلب العلم لأجل المباهاة) أي المفاخرة (والمنافسة) بالسين المهملة، أي الرغبة في كون العلم لنفسه خاصة دون غيره لأنه نفيس (فالعامي) أي الذي لم يتفقه (بمعزل) أي تبعد (عن أكثر هذه الخصال والمتفقه مستهدف) أي منتصب (لها) أي هذا الخصال (وهو متعرض) أي مقبل (للهلاك بسببها) أي هذه الخصال (فانظر) أي تفكر (أي أمورك أهم أتتعلم كيفية الحذر من هذه المهلكات وتشتغل بإصلاح قلبك وعمارة آخرتك أم الأهم أن تخوض) أي توجد الكلام الذي هو في غير موقعه (مع الخائضين) أي مع المتكلمين بما لا ينفع (فتطلب من العلم ما هو سبب زيادة الكبر والرياء والحسد والعجب حتى تهلك مع الهالكين، واعلم أن هذه الخصال من الثلاث من أمهات خبائث القلوب) وعد المصنف الكبر والعجب خصلة واحدة لما بينهما من التلازم والتقارب، ولذلك لم يذكرا في أول الباب (ولها) أي لهذه الثلاثة (مغرس) أي أصل (واحد وهو حب الدنيا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ) فإنه يوقع في الشبهات ثم في المكروهات، ثم في المحرمات، وكما أن حبها رأس كل خطيئة فبغضها رأس كل حسنة.
     روى هذا الحديث البيهقي عن الحسن البصري مرسلاً كذا في الجامع الصغير وشرحه. وقال الزرقاني وهذا من كلام مالكبن دينار، كما رواه ابن أبي الدنيا أو من كلام عيسى عليه السلام، كما رواه البيهقي في الزهد. وقال في شعب الإيمان: هذا لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنه من مراسيل الحسن البصري (ومع هذا فالدنيا) أي دار الدنيا (مزرعة) لدار (الآخرة فمن أخذ من الدنيا) شيئاً (بقدر الضرورة) أي الحاجة (ليستعين بها) أي بالدنيا وفي بعض النسخ به، أي بالقدر المأخوذ (على الآخرة فالدنيا مزرعته ومن أراد الدنيا ليتنعم بها فالدنيا مهلكته) قال بعضهم طلب الكسب لازم وهو أربعة أنواع: فرض وهو كسب أقل الكفاية لنفسه. وعياله ودينه ومستحب وهو الزائد على ذلك ليواسي به فقيراً أو يصل به رحماً، وهو أفضل من نفل العبادة، ومباح وهو كسب الزائد على ذلك للتنعم والتجمل. وحرام وهو كسب ما أمكن للتكاثر والتفاخر، أي ادعاء العظم والشرف (فهذه) أي المذكورات من أول الكتاب (نبذة يسيرة) أي شيء قليل (من ظاهر علم التقوى وهي بداية الهداية فإن جربت) أي اختبرت مرة بعد أخرى (بها) أي بهذه البداية (نفسك) أي الإمارة وغيرها (وطاوعتك) أي انقادت لك (عليها) أي على أداء مقتضاها (فعليك) أي الزم وتمسك (بكتاب إحياء علوم الدين لتعرف كيفية الوصول إلى باطن التقوى) وأنقل منه الآن شيئاً مما ينبغي أن يحضر في القلب عند كل ركن وشرط من أعمال الصلاة. وهو فإذا سمعت نداء المؤذن فاحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة، وتشمر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة، فإن المسارعين إلى هذا النداء هم الذين ينادون باللطف يوم العرض الأكبر فاعرض قلبك على هذا النداء، فإن وجدته مملوءاً بالاستبشار مشحوناً بالرغبة إلى الابتدار، فاعلم أنه يأتيك النداء بالبشرى، وإذا أتيت بالطهارة فلا تغفل عن قلبك، فاجتهد له تطهيراً بالتوبة والندم على ما فرطت.
     وأما ستر العورة فاعلم أن معناه تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق، فإن ظاهر بدنك موقع لنظر الخلق، فما بالك بعورات باطنك وفضائح سرائرك، فاحضر تلك الفضائح ببالك، وطالب نفسك بسترها، ولايكفرها إلا الندم والحياء والخوف. وأما الاستقبال فهو صرف لظاهر وجهك عن سائر الجهات عن جهة بيت الله تعالى، فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك، فاعلم أنه كما لا يتوجه الوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، فلا ينصرف القلب إلى الله تعالى إلا بالتفرغ عما سواه. أما الاعتدال قائماً فهو مثول بالشخص، والقلب بين يدي الله عز وجل، فليكن رأسك مطرقاً تنبيهاً على إلزام القلب التواضع والتذلل والتبري عن الترؤس والتكبر، وليكن على ذكرك ههنا خطر القيام بين يدي الله تعالى في هول القيامة عند العرض للسؤال. وأما النية فاعزم على إجابة الله تعالى في امتثال أمره بالصلاة وإتمامها والكف عن مفسداتها، وإخلاص جميع ذلك لوجه الله رجاء لثوابه، وخوفاً من عقابه، وطلباً للقربة منه. وأما التكبير فإذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبك، فإن كان في قلبك شيء أكبر من الله، فالله يشهد أنك لكاذب. وأما دعاء الاستفتاح فأول كلماته قولك: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر، فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة، والله يتقدس عن أن تحده الجهات، وإنما وجه القلب هو الذي تتوجه به إلى فاطر السموات والأرض فانظر إليه أمتوجه إلى همه في البيت والسوق متبع للشهوات، أو مقبل إلى فاطر السموات. وإذا قلت حنيفاً مسلماً فينبغي أن يخطر ببالك أن المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده، فإن لم تكن كذلك كنت كاذباً وإذا قلت وما أنا من المشركين، فأخطر ببالك الشرك الخفي، وكن حذراً من هذا الشرك، فإن اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه، وإذا قلت محياي ومماتي لله، فاعلم أن هذا حال عبد مفقود لنفسه موجود لسيده. وإذا قلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فاعلم أنه عدوك، ومترصد لصرف قلبك عن الله تعالى حسداً لك على مناجاتك مع الله وسجودك له.
     واعلم أن من مكايده أن يشغلك في صلاتك بذكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات ليمنعك عن فهم ما تقرأ، فاعلم أن كل ما يشغلك عن فهم معاني قراءتك فهو وسواس، فإن حركة اللسان غير مقصودة، بل المقصود معانيها، وإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم، فانو بها التبرك لابتداء القراءة بكلام الله، وافهم أن معناها أن الأمور كلها بالله، وأن المراد بالاسم هنا المسمى. ومعنى الحمد أن الشكر لله إذ النعم من الله، وإذا قلت الرحمن الرحيم فأحضر في قلبك جميع أنواع لطفه، لتتضح لك رحمته، ثم استتر من قلبك التعظيم لله والخوف لهول يوم السحاب بقولك: ما لك يوم الدين، ثم جدد الإخلاص بقولك إياك نعبد، وجدد العجز والاحتياج والتبري من الحول والقوة، بقولك وإياك نستعين، ثم اطلب أهم حاجتك وقل: اهدنا الصراط المستقيم، ثم التمس الإجابة وقل: آمين فإذا تلوت الفاتحة كذلك فتشبه أن تكون من الذين قال الله تعالى فيهم فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "قَسِمَتِ الصَّلاةُ، أي قراءتها بيْنِي وَبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، أي نصفها لي ونصفها لعبدي، وَلِعَبْدِي ما سَألَ فإذا قالَ العَبْدُ: الحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمينَ. قال اللَّهُ تَعَالى: حَمدَني عَبْدِي، فإذا قالَ العَبْدُ الرَّحْم?نِ الرَّحِيمِ قالَ الله تعالى: أَثْنَى عَليَّ عَبْدِي، فإذا قالَ العبدُ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مَجَّدَني عَبْدِي، فإذا قال العَبْدُ إِيَّاكَ نعبدُ وإِيّاك نَسْتَعِينُ. قال: ه?ذا بيْنِي وَبيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي ما سَألَ فإذا قالَ العَبْدُ اهْدِنا الصِّرَاطَ المستقيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال: ه?ذا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ" وأما دوام القيام فإنه تنبيه على إقامة القلب مع الله على نعت واحد من الحضور، وأما الركوع والسجود، فينبغي أن تجدد عندهما ذكر كبرياء الله تعالى، وترفع يديك مستجيراً بعفو الله تعالى من عقابه، وأما التشهد فإذا جلست له فاجلس متأدباً وأحضر في قلبك النبي صلى الله عليه وسلم وشخصه الكريم، ثم تأمل أن الله يرد عليك سلاماً وافياً بعدد عباده الصالحين، ثم تشهد له تعالى بالواحدانية ولمحمد نبيهصلى الله عليه وسلم بالرسالة مجدداً عهد الله تعالى بإعادة كلمتي الشهادة، ثم ادع في آخر صلاتك بالدعاء المأثور مع التواضع والخشوع، وصدق الرجاء بالإجابة، وأشرك في دعائك أبويك وسائر المؤمنين، واقصد عند التسليم السلام على الملائكة والحاضرين، وانو ختم الصلاة به وأضمر في قلبك شكر الله تعالى على توفيقه لإتمام هذه الطاعة، وتوهم أنك مودع لصلاتك هذه، وأنك ربما لا تعيش لمثلها وخف أن لا تقبل صلاتك، وأن تكون ممقوتاً بذلك ظاهراً وباطناً فترد صلاتك في وجهك، وارج مع ذلك أن يقبلها الله تعالى بكرمه وفضله، وكان بعضهم يمكث بعد الصلاة ساعة، كأنه مريض فليعرض الإنسان نفسه على هذه الصلاة، فبالقدر الذي يسر له منه ينبغي أن يفرح، وعلى ما يفوته ينبغي أن يتلهف وفي مداومة ذلك ينبغي أن يجتهد (فإذا عمرت) أي ملأت (بالتقوى باطن قلبك) كما وصف لك (فعند ذلك ترتفع الحجب) أي الموانع للشهود (بينك وبين ربك) تعالى (وتنكشف لك أنوار المعارف وتنفجر) أي تنبجس (من قلبك ينابيع الحكم) أي عيون العلوم النافعة (وتتضح لك أسرار الملك والملكوت) الملك ما تشهده بعين بصرك، والملكوت ما تدركه بعين بصيرتك (ويتيسر لك من) حصول (العلوم) اللدنية من الأسرار والمكاشفات والمعارف من غير كسب وتعب والجار والمجرور بيان لما بعده (ما تستحقر به هذه العلوم المحدثة) أي المؤلفات للعلماء (التي لم يكن لها) أي لهذه المحدثة (ذكر في زمن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين) كالفقه والنحو واللغة وغيرها من المؤلفات.
     (حكى) أن الإمام الغزالي صار إماماً في مسجده، وله أخ اسمه أحمد لم يقتد به فقال الإمام لأمه: يا أمي مري أخي أحمد بالاقتداء بي في الصلاة لئلا يتهمني الناس على سوء فعلي، فأمرته بذلك فاقتدى به. فرأى أن في بطن الإمام دماً ففارقه، ثم لما فرغ من الصلاة سأله الإمام عن سبب مفارقته في الصلاة فقال له أخوه: إني رأيت بطنك مملوءاً بالدم، وقد كان الإمام حالة الصلاة يتذكر مسألة المتحيرة فقال له الإمام: من أين أخذت العلم ؟ فقال: أخذته من الشيخ العتقي بضم العين وفتح التاء، وهو الذي يخيط النعال القديمة، ويصلحها، فذهب الإمام إلى الشيخ الخرازي فقال له: يا سيدي أريد أن آخذ العلم منك. فقال: لعلك لا تطيق إطاعة أمري فقال: إن شاء الله تعالى أطيق ذلك. فقال: اكنس هذه الأرض، فلما أراد الإمام أن يكنسها بالمكنس أمره بكنسها باليد، فكنسها بيده، ثم رأى عذرة كثيرة جداً في الأرض فقال ذلك الشيخ اكنس هذه العذرة، فلما أراد الإمام أن يفسخ ثيابه. قال له الشيخ: اكنسها مع ما أنت عليه من اللباس، فلما أراد أن يكنسها برضا قلب، نهاه الشيخ عن الكنس، وأمره بالرجوع إلى بيته فلما رجع الإمام، وتعدى إلى مدرسته وهو محل تعليم العلوم للطلبة فقال للناس: في هذا محل تلاعبنا مع الصبيان، وقد أعطاه الله تعالى العلوم اللدنية، وصار حينئذٍ يرى أن جميع العلوم التي علمها للناس حقيرة بالنسبة لهذه العلوم التي أفاضها الله تعالى على قلبه من غير كسب وتعب منه رضي الله عنه (وإن كنت تطلب العلم من القيل والقال) أي المخاصمة (والمراء والجدال فما أعظم مصيبتك) أي شدتك النازلة عليك
     (وما أطول تعبك وما أعظم حرمانك) أي امتناعك من الخير (وخسرانك فاعمل ما شئت) من المنهيات إن لم تخف الهلاك (فإن الدنيا) أي متاعها (التي تطلبها بالدين لا تسلم) أي تلك الدنيا (لك والآخرة تسلب) أي تذهب (منك فمن طلب الدنيا بالدين خسرهما) بتشديد السين أي أهلكهما (جميعاً ومن ترك الدنيا للدين ربحهما جميعاً) أي استشف فيهما فإن الدنيا عدوة لله تعالى وعدوة لأوليائه وعدوة لأعدائه، أما عداوتها لله تعالى فإنها تقطع الطريق عن أوليائه، وأما عداوتها لأوليائه تعالى فلأنها تزينت لهم بزينتها وأعمتهم بزهرتها، فتجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها، وأما عداوتها لأعداء الله تعالى فلاستدراجها بمكرها حتى عولوا عليها (فهذه) أي المذكورات كلها (جمل الهداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع الله تعالى بإداء أوامره واجتناب نواهيه) وفي بعض النسخ مناهيه وهو أولى (وأشير عليك الآن بجمل من الآداب لتؤاخذ) أي لتحاسب وتداوي (نفسك) القبيحة (بها) أي بتلك الجمل (في مخالطتك مع عباد الله تعالى وصحبتك معهم في الدنيا) فالأدب هو استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً أي بحسن الأحوال والأخلاق واجتماع الخصال المحمودة من بسط الوجه، وحسن اللقاء وحسن التناول والأخذ.j وقال ابن عطاء الله: الأدب الوقوف مع المستحسنات. وقيل: الأخذ بمكارم الأخلاق. وقيل: هو تعظيم من فوقه، والرفق بمن دونه. قال بعض المتقدمين: كما أن قوت الأجساد بالأطعمة المصنوعة، كذا قوت العقل بالآداب المسموعة. وقال بعضهم من بحر المتقارب:
وَمَا كُلَّ وَقْتٍ تَرَى مُسْعِفاً >< فَكُنْ حَافِظاً لِطَريقِ الأدَبْ
تَرَى اللَّهَ يَكشفُ ما قَدْ خَفِي >< فَتَحْظَى بأجْرٍ وَنَيْلٍ الرُّتَبْ

القول في آداب الصحبة والمعاشرة مع الخالق عز وجل ومع الخلق
     وهذه الترجمة بيان للقسم الثالث الذي وعد المصنف بذكره في قوله وألحق قسماً ثالثاً (اعلم أن صاحبك الذي لا يفارقك في حضرك) أي بلدك (وسفرك ونومك ويقظتك بل في حياتك وموتك هو ربك) أي مصلحك (وسيدك) أي مالكك (ومولاك) أي ناصرك (وخالقك ومهما) أي في أي وقت (ذكرته) بلسانك أو بقلبك أو بهما (فهو جليسك) أي مجالسك فلا ينساك (إذ قال الله تعالى) في الحديث القدسي (أنا جليس من ذكرني) وقال الله تعالى: عبدي أنا عند ظنك بي، وأنا معك أي بالتوفيق، أو أنا معك بعلمي إذا ذكرتني أي إذا دعوتني فأسمع ما تقول، فأجيبك. هذا وما أشبهه في ذلك عن يقظة لا عن غفلة، وقال الله تعالى: يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منه، وإن دنوت مني ذراعاً نوت منك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيت إليك أهرول، والمعنى إن ذكرتني سراً إخلاصاً وتجنباً للرياء أسرع بثوابك على منوال عملك، وإن ذكرتني في جماعة افتخاراً بي وإجلالاً لي بين خلقي ذكرتك في الملائكة المقربين، وأرواح المرسلين مباهاة بك وإعظاماً لقدرك، وإن تقربت مني بالاجتهاد والإخلاص في طاعتي قربتك بالهداية والتوفيق، وإن زدت زدت كذا أفاده العزيزي (ومهما انكسر قلبك) أي ذل (حزناً على تقصيرك في حق) أي جنب (دينك فهو صاحبك وملازمك إذ قال الله تعالى) في الحديث القدسي (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) أي أنا مع الخاشعين بالتوفيق من أجل التقصير في الطاعة، ومن أجل حصول المعصية (فلو عرفته) تعالى أيها العاقل (حق معرفته لاتخذته صاحباً وتركت الناس جانباً) كما قال الشاعر من بحر الخفيف:
مُذ عَرَفْتُ الإل?هَ لَمْ أرَ غَيْراً >< وَكَذَا الغَيْرُ عِنْدَنا مَمْنُوعُ
مُذْ تَجَمَّعْتُ ما خَشِيت افتراقاً >< وَأنا اليَوْمَ وَاصِلٌ مجموعُ
وكما قال الشاعر من بحر البسيط:
لِكُلِّ شَيْءٍ إذا فَارَقْتَهُ عِوَضٌ >< وَلَيْسَ للَّهِ إِنْ فَارَقْتَ مِنْ عِوَضِ
(فإن لم تقدر على ذلك) أي اتخاذ الله صاحباً، وترك الناس جانباً بملازمة الطاعة، وإكثار الذكر واجتناب المعاصي (في جميع أوقاتك فإياك) أي احذر (أن تخلي) بتشديد اللام أي تترك (ليلك ونهارك عن قوت تخلو فيه) أي تنفرد في ذلك الوقت (لمولاك وتتلذذ معه بمناجاتك له) بصلاة النفل وغيرها (وعند ذلك) أي الخلوة (فعليك أن تتعلم آداب الصحبة مع الله تعالى) فإن الله تعالى أمرنا بالآداب

آداب الصحبة آربعة عشر
     (وآدابها) أي الصحبة مع الله تعالى أربعة عشر:
     الأول (إطراق الرأس وغض الطرف) أي خفضه (و) الثاني (جمع الهم) أي القصد مع الاعتماد على الله (و) الثالث (دوام الصمت) أي عما لا يفيد في الدين لقولهصلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ" (و) الرابع (سكون الجوارح) عن الملاغاة لأنه يستلزم الخشوع والخضوع وحضور القلب مع الله تعالى (و) الخامس (مبادرة) امتثال (الأمر) أي من الواجب والمندوب (و) السادس (اجتناب النهي) أي المحرم والمكروه (و) السابع (قلة الاعتراض) أي عدم الاعتراض (على القدر) بتحريك الدال أي على تقدير الله الأمور قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعْبُدُ اللَّهُ بِالرِّضَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ" وقال أيضاً: قال: "اللَّهُ تَعَالَى أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا أَنَا فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلى بَلائِي وَلَمْ يَشْكُرْ لِنَعْمائِي وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، فَلْيَطْلبْ رَبّاً سِوَائِي" وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: ليس الرضا أن لا يحس بالبلاء إنما الرضا أن لا يعترض على الحكم والقضاء. وحكي عن الشيخ عفيف الدين الزاهد أنه كان بمصر، فبلغه ما وقع ببغداد من قتل التتار أهلها فأنكر، وقال: يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فرأى في المنام رجلاً في يده كتاب فإذا فيه بيتان من بحر المتقارب وهما:
دَعِ الاعْتِرَاضَ فما الأمْرُ لَكْ >< وَلاَ الحُكْمُ في حَرَكاتِ الفَلَكْ
وَلا تسألِ الله عَنْ فِعْلِهِ >< فَمَنْ خَاضَ لُجَّةَ بَحْرٍ هَلَكْ
(و) الثامن (دوام الذكر) أي باللسان والقلب (و) التاسع (ملازمة الفكر) في نعمة الله تعالى وفي جلاله تعالى (و) العاشر (إيثار الحق) أي اختياره وتقديمه (على الباطل) وفي بعض النسخ سقوط هذا الجار والمجرور والمعنى تقديم الله تعالى في الرجوع إليه على الخلق، وعلى كل ما سواه، والمراد بالحق على هذا هو الله تعالى (و) الحادي عشر (الإياس) أي قطع الرجاء (عن الخلق) أي عدم الاعتماد على الخلق في حاجتك في السفر والحضر، لأن الخلق لا تنفع ولا تضر (و) الثاني عشر (الخضوع) أي التواضع بالقلب (تحت الهيبة) مع الله تعالى (و) الثالث عشر (الانكسار) أي في القلب (تحت الحياء) من الله تعالى لتقصيرك في العبادة (و) الرابع عشر (السكون عن حيل الكسب ثقة) أي ائتماناً (بالضمان) أي بضمان الله تعالى لك في رزقك قال تعالى، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها (والتوكل) أي الاعتماد (على فضل الله تعالى معرفة بحسن الاختيار) أي اختياره تعالى فإن الله تعالى هو المدبر لعبده
     (وهذا) الأدب (كله ينبغي) أي يطلب (أن يكون) أي يصير هو (شعارك) أي ثيابك لأنها الملاصقة ببدنك (في جميع ليلك ونهارك فإنها) أي هذه الآداب المذكورة (آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك) أي بعلمه وتوفيقه في جميع أوقاتك (والخلق كلهم يفارقونك في بعض أوقاتك) قال الله تعالى: وهو معكم أينما كنتم (وإن كنت عالماً فآداب العالم) سبعة عشر: الأول (الاحتمال) أي قبول ما جاء به تلامذته من المسألة وما يتبعه أي الصبر على ذلك (و) الثاني (لزوم الحلم) بكسر الحاء أي الاناة (في الأمور و)الثالث (الجلوس بالهيبة) أي إجلال جلسائه (على سمت الوقار) أي صفة الضعف (مع إطراق الرأس) أي استرخاء العين (و) الرابع (ترك التكبر على جميع العباد إلا على الظلمة) المتجاهرين بظلمهم (زجراً لهم عن الظلم) فإن التكبر على المتكبرين صدقة كالتواضع مع المتواضعين (و) الخامس (إيثار التواضع) أي تقديمه (في المحافل) أي مجامع الناس (والمجالس و) السادس (ترك الهزل) أي اللعب (والدعابة) بالدال المهملة ثم الباء الموحدة أي المزاح (و) السابع (الرفق بالمتعلم) في تعليمه (والتأني بالمتعجرف) أي الذي لا يحسن السؤال ويدعي العلم ولا يعلمه بأن تحسن عليه بأحوالك وأقوالك (و) الثامن (إصلاح البليد) أي غير الفطن (بحسن الإرشاد) أي التعليم (و) التاسع (ترك الحرد) أي الغضب والتعريض (عليه) أي البليد (و) العاشر (ترك الأنفة) أي الاستكبار والامتناع والاستحياء (من قول لا أدري) أو من قول والله أعلم إذا لم تظهر لك المسألة، أو لم تعلم لما روي في الحديث أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي البلاد أشر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ" فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لاَ أدْرِي حَتى أَسْأَلَ رَبَّ العِزَّةِ. (و) الحادي عشر (صرف الهمة) أي القلب (إلى السائل) لأجل إخلاصه (وتفهم سؤاله) لتجيب مسألته (و) الثاني عشر (قبول الحجة) أي الدليل المصدق للقائل وأستماعها، وإن كانت من الخصم لأن اتباع الحق واجب (و) الثالث عشر (الانقياد للحق بالرجوع إليه) أي الحق (عند الهفوة) أي الزلة في القول والاعتقاد وإن صدر ممن هو أسفل منك (و) الرابع عشر (منع المتعلم عن كل علم يضره) في الدين كعلم السحر والنجوم والرمل (و) الخامس عشر (زجره) أي نهي المتعلم (عن أن يريد بالعلم النافع غير وجه الله تعالى) وغير الدار الآخرة (و) السادس عشر (صد المتعلم) أي منعه وصرفه (عن أن يشتغل بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين وفرض عينه إصلاح ظاهره وباطنه بالتقوى) أي بأداء عبادة ظاهرة وباطنة، وباجتناب معصية ظاهرة وباطنه كما هو مذكور في هذا الكتاب والله الهادي (و) السابع عشر (مؤاخذة) أي مداواة (نفسه) أي العالم (أولاً) أي قبل الأمر للناس بفعل الخير، وقبل النهي لهم عن اجتناب الشر (بالتقوى) أي بامتثال أمر الشرع واجتناب نهيه (ليقتدي المتعلم أولاً بأعماله ويستفيد) أي المتعلم (ثانياً من أقواله) فإن دلالة الأحوال أقوى من دلالة المقال، كما قال أبو الأسود من بحر الكامل:
وَإِذَا عتِبتَ على الصَّدِيقِ وَلُمْتَهُ >< في مِثْلِ ما تأتي فَأَنْتَ مُلِيمُ
فابْدأَ بِنَفسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غِيِّها >< فإذا انْتَهَتْ عَنْهُ فأنْتَ حَكِيمُ
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِي مِثْلَهُ >< عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ

آداب المتعلم مع العالم
     (وإن كنت متعلماً فآداب المتعلم مع العالم) ثلاث عشر: الأول (أن يبدأه بالتحية والسلام) وطلب الإذن في الدخول (و) الثاني (أن يقلل بين يديه) أي في حضرته (الكلام) أي المباح (و) الثالث أن (لا يتكلم ما لم يسأله أستاذه) (و)الرابع أن (لا يسأل) شيئاً (ما لم يستأذن) أستاذه (أولاً) أي قبل السؤال (و) الخامس أن (لا يقول في معارضة قوله) أي لأستاذه (قال فلان بخلاف ما قلت) وما أشبه ذلك (و) السادس أن (لا يشير عليه) أي أستاذه (بخلاف رأيه) أي بمخالفة قول استاذه (فيرى) أي يظن المتعلم (أنه أعلم بالصواب) في تلك المسألة (من أستاذه) فذلك يخل بالأدب للأستاذ وينقص البركة (و) السابع أن (لا يسأل) وفي بعض النسخ لا يشاور (جليسه في مجلسه) أي الأستاذ ولا يتبسم عند مخاطبته (و) الثامن أن (لا يلتفت إلى الجوانب) يميناً وشمالاً في حضرته (بل يجلس مطرقاً عينه ساكناً متأدباً) بلا عبث بنحو اليد (كأنه في الصلاة و) التاسع أن (لا يكثر عليه) أي الأستاذ (السؤال عند ملله) أي الأستاذ أي عند سآمته وقلقه من الغم ولو بالتوهم القوي (و) العاشر (إذا قام) أي الأستاذ (قام) أي المتعلم (له) أي لأجله تعظيماً له، ولا يأخذ بثوبه إذا قام (و) الحادي عشر أن (لا يتبعه) عند القيام من المجلس (بكلامه وسؤاله و) الثاني عشر أن (لا يسأله في طريقه) بل ينتظر (إلى أن يبلغ منزله) أو بيته أو محل قعوده (و) الثالث عشر أن (لا يسيء الظن به) أي الأستاذ (في أفعال ظاهرها منكرة) أي غير مرضية لله تعالى (عنده) أي المتعلم (فهو) أي الأستاذ الفاء للتعليل أي لأنه (أعلم بأسراره) أي الأفعال (وليذكر عند ذلك) أي عند إرادة إساءة الظن (قول موسى للخضر) واسمه بليابن ملكان (عليهما السلام) منكراً لما في ظاهره الفساد بإتلاف السفينة المؤدي إلى إهلاك النفوس، وسمي خضراً لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز تحته خضراء، والفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة، وقيل سمي خضراً لأنه كان إذا صلى خضر ما حوله (أخرقتها) أي السفينة أي قلعت لوحاً من ألواحها (لتغرق أهلها) فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المؤدي إلى غرق أهلها (لقد جئت شيئاً إمراً) أي عظيماً منكراً، فإن ذلك منكر في الظاهر، ولذلك أنكره موسى أولاً، ولكنه في الحقيقة موافق لباطن الشريعة، فلذلك صدقه موسى آخراً (و) ليذكر (كونه) أي المتعلم (مخطئاً في إنكاره) أي على الأستاذ (اعتماداً على الظاهر) وليذكر كون الأستاذ عالماً بالأسرار، كما روي أن ابن عربي كان يصلي، فرآه تلامذته يحرك رجله مراراً في الصلاة، وسألوه بعدها لم حركتها؟ فقال: إن الفخر الرازي احتضر، فاحتاطت به الشياطين لتسلبه الإيمان، فطردتهم عنه برجلي، فمات على الإيمان (وإن كان لك والدان فآداب الولد مع الوالدين) أي المسلمين اثنا عشر: الأول (أن يسمع كلامهما) ولو شتما من غير جواب لهما (و) الثاني أن (يقوم لقيامهما) توقيراً لهما وحفظاً لحرمتهما وإن كانا دونه في المرتبة (و) الثالث أن (يمتثل لأمرهما) فيما يأمرانه أو أحدهما، ولو فيما يضره إذا لم يكن الأمر في معاصي الله تعالى (و) الرابع أن (لا يمشي أمامهما) تعاظماً عليهما، بل يمشي بإزائهما أو خلفهما، فإن مشى أمامهما لأمر اقتضاه الحال فلا بأس حينئذٍ (و) الخامس أن (لا يرفع صوته فوق أصواتهما) أو أصوات أحدهما سلوكاً للأدب معهما وهذا أوكد الآداب كما قاله الرملي في عمدة الرابح (و) السادس أن (يلبي دعوتهما) أي يجيب نداءهما بجواب لين يدل على تعظيمهما، كقولك لبيك أو نعم أو سيدي أو سيدتي (و) السابع أن (يحرص) أي يحافظ (على طلب مرضاتهما) بالأحوال والأقوال (و) الثامن أن (يخفض لهما جناح الذل) أي جناحه الذليل، وذلك كناية عن التواضع واللين، كأن يخدمهما بنفسه ويطعمهما بيده لعجزهما، ويؤثرهما على نفسه وأولاده (و) التاسع أن (لا يمن عليهما بالبر لهما ولا بالقيام لأمرهما) كأن يقول أعطيتكما كذا وكذا، وفعلت كذا لكما، فإن المن يكسر القلوب، ومن ذلك قيل: إن المن أخو المن أي الامتنان بتعديد الصنائع أخو القطع (و) العاشر أن (لا ينظر إليهما شزراً) بفتح الشين وسكون الزاي وهو نظر الغضبان بمؤخر العين، أو هو النظر عن يمين وشمال، أو هو نظر فيه إعراض كما في القاموس (و) الحادي عشر أن (لا يقطب) بكسر الطاء أي يجمع أو بضم الياء وتشديد الطاء أي يعبس (وجهه في وجههما و) الثاني عشر أن (لا يسافر إلا بإذنهما) سفر الجهاد وحج تطوع، وزيارة أنبياء وأولياء وسفر ألم تغلب فيه السلامة لتجارة، فإن ذلك يحرم إذا لم يكن بإذن أصل أب وأم وإن عليا وإن أذن من هو أقرب منه إلا سفراً لتعلم فرض، ولو كفاية كطلب النحو ودرجة الإفتاء، فلا يحرم عليه وإن لم يأذن أصله كذا في فتح المعين، وأما الوالدان الكافران، فأدب الولد معهما مصاحبتهما في الأمور التي لا تتعلق بالدين ما دام حياً، ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما تقضتيه مكارم الأخلاق والشيم
     (واعلم أن الناس بعد هؤلاء) أي المذكورين من العالم والمتعلم والوالدين (في حقك ثلاثة أصناف) أي أنواع (إما أصدقاء وإما معاريف وإما مجاهيل فإن بليت) بالبناء للمفعول (بالعوام المجهولين) أي امتحنك الله بصحبة العوام الذين هم ليسوا أصدقاءك ولا معارفك (فآداب مجالستهم) خمسة. الأول (ترك الخوض) أي الدخول معهم (في حديثهم و) الثاني (قلة الإصغاء) أي عدم إمالة السماع (إلى أراجيفهم) أي كثرة أخبارهم السيئة، واختلاف أقوالهم الكاذبة (و) الثالث (التغافل) أي الترك بالإعراض (عما يجري) أي يسبق (من سوء ألفاظهم و) الرابع (الاحتراز) أي التجنب (عن كثرة لقائهم والحاجة إليهم و) الخامس (التنبيه على منكراتهم باللطف والنصح عند رجاء القبول منهم) فإن قلوب العوام سريعة التقلب، فإن لم ينفع النصح، فالإعراض أولى (وأما الإخوان والأصدقاء فعليك فيهم وظيفتان: إحداهما أن تطلب أولاً) أي قبل المعاشرة مع من تريد معاشرتهم (شروط الصحبة والصداقة) لأنه لا يصلح للصحبة كل إنسان (فلا تؤاخ إلا من يصلح للإخوة والصداقة) ولا بد أن يتميز بصفات يرغب بسببها في صحبته، وتشترط بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة إذ معنى الشرط ما لا بد منه للوصول إلى المقصود، فبالإضافة إلى المقصود تظهر الشروط، فليس ما يشترط للصحبة في مقاصد الدنيا مشروطاً للصحبة للآخرة، فإن الإخوة ثلاثة: أخ لآخرتك وأخ لدنياك لتأنس به، ولم تجمتع هذه المقاصد في واحد، بل تتفرق على جمع فتتفرق الشروط فيهم (قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيْلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ) وقال أيضاً "المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ" رواه الترمذي عن أنس. قال سهلبن عبدالله: اجتنب صحبة ثلاثة من أصناف الناس الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين. (فإذا طلبت رفيقاً) أي من يرافقك (ليكون شريكك في التعلم وصاحبك في أمر دينك ودنياك فراع) أي انظر (فيه) أي الرفيق (خمس خصال الأولى العقل) فإنه رأس المال وهو الأصل (فلا خير في صحبة الأحمق) أي فاسد العقل (فإلى الوحشة والقطيعة يرجع آخرها) أي الصحبة وإن طالت فإنك لست منه على شيء (وأحسن أحواله) أي الأحمق (أن يضرك وهو يريد أن ينفعك) ويعينك من حيث لا يدري لحماقته (والعدو العاقل خير من الصديق الأحمق) ولذلك قال الشاعر من بحر الكامل:
إِنِّي لآمَنُ مِنْ عَدُوَ عَاقِلٍ >< وَأَخَافُ خِلاًّ يَعْتَرِيهِ جُنُونُ
فَالعَقْلُ فيهِ وَاحِدٌ وَطَرِيقُهُ >< أدْري فَأرْصُدُ وَالجُنونُ فُنُونُ
ولذا قيل: مقاطعة الأحمق قربان إلى الله، والمراد بالعاقل هو الذي يفهم الأمور على ما هي عليه (قال) أمير المؤمني (عليّ)بن أبي طالب (رضي الله عنه) نظماً من بحر الوافر المعصوب الأجزاء في ستة أبيات مجزوءة وبعض أجزائها منقوص:
فَلا تَصْحَبْ أخا الجهلِ >< وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى >< حَليماً حينَ وَاخَاهُ
يُقَاسُ المَرْءُ بالمَرءِ >< إذا ما المرءُ ما شاهُ
كَحَذْو النَّعْلِ بالنَّعْلِ >< إذا ما النعلُ حَاذَاهُ
وَلِلشَّيْءِ مِنَ الشَّيءِ >< مَقَاييسُ وَأَشْبَاهُ
وَلِلْقَلْبِ عَلَى القَلْبِ >< دَلِيلٌ حِينَ يَلْقَاهُ
ومعنى أردى أهلك، وفي نسخة: إذا ما هو ساواه.
وقال بعضهم من بحر المواليات وأجزاؤه مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعل بسكون آخره:
عَاشِرْ ذَوي الفَضْلِ وَاحْذَرْ عِشْرَةَ السَّفَلْ >< وَعَنْ عُيُوبِ صَدِيقِكَ كُفَّ وَتَغَفَّلْ
وَصُنْ لِسَانَك إذا ما كُنْتَ في مَحْفِلٍ >< وَلا تُشَارِكْ وَلا تَضْمَنْ ولا تَكْفَلْ
(الثانية حسن الخلق) فلا بد منه إذ رب عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه، ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع هواه، وخالف ما هو المعلوم عنده لعجزه عند قهر صفاته، وتقويم أخلاقه، فذلك سيء الخلق (فلا تصحب من ساء خلقه) فإنه لا خير في صحبته (وهو الذي لا يملك) أي لا يتمالك (نفسه) أي الأمارة أو اللوامة (عند الغضب والشهوة) والبخل والجبن (وقد جمعه) أي حسن الخلق (علقمة العطاردي) نسبة إلى عطارد رجل من تميم رهط أبي رجاء عمرانبن ملحان (رحمه الله تعالى في وصيته لابنه لما) أي حين (حضرته الوفاة فقال يا بني إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته) أي بالقول أو بالفعل (صانك) في عرضك ونفسك ومالك (وإن صحبته زانك) أي بصحته (وإن قعدت بك مؤنة) بالقاف ثم العين المهملة أي تأخرت وحبست (مانك) أي احتمل مؤنتك وقام بكفايتك (أصحب من إذا مددت يدك بخير مدها) أي إذا أعطيته شيئاً جازاك، أو إذا أتيت خصلة من أنواع الطاعات أعانك (وإن رأى منك حسنة عدها) وإن قلت (وإن رأى منك سيئة سدها) وإن كثرت أصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك (اصحب من إذا قلت صدق قولك) أي لا يعترض عليك (وإذا حاولت) أي عالجت (أمراً أمرك) بتشديد الميم، أي جعلك أميراً، وفي نسخة أعانك ونصرك (وإن تنازعتما) أي اختلفت أنت وهو (في شيء آثرك) أي قدمك على نفسه، فكان هذا جمع جميع حقوق الصحبة قال المأمون: فأين هذا؟ فقيل له: أتدري لم أوصاه بذلك؟ قال: لا. قال: لأنه أراد أن لا يصحب أحداً. قال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك، ويستر عيبك، فيكون معك في النوائب، ويؤثرك في الرغائب، وينشر حسنتك ويطوي سيئتك، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك (وقال) أمير المؤمنين (علي)بن أبي طالب (رضي الله عنه رجزاً) أي نظماً من بحر الرجز:
إنَّ أخاكَ الحَقَّ مَنْ كَانَ مَعَكْ >< وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ
وَمَنْ إذا رَيْبُ الزَّم?انِ صَدَّعَكْ >< شَتَّت فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَكْ
أي إن أخاك الصحيح من كان يصاحبك في حالة الرخاء والشدة، والصحة والمرض، ومن يتعب نفسه لأجل نفعك، وإذا فرقتك حوداث الدهر وصروفه فرق لأجل ذلك ما اجتمع من أمره، لتكون مجتمعاً على حالة حسنة، وفي بعض النسخ شتت فيك، أي من أجلك أو في شأنك (الثالثة الصلاح) أي الخير والصواب في الأحوال (فلا تصحب فاسقاً مصراً على معصية كبيرة) لأنه لا فائدة في صحبته (لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة ومن لا يخاف الله لا تؤمن غوائله) أي شروره لا يوثق بصداقته (بل يتغير) أي من لا يخاف الله (بتغير الأحوال) من العلانية والخلوة ونحوه (والأعراض) من مرض ونحوه (قال الله تعالى لنبيهصلى الله عليه وسلم وَلاَ تُطَعِ) يا أشرف الخلق (مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) أي جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا (وَاتبّعَ هَوَاهُ) أي في طلب الشهوات (وَكَانَ أَمْرُهُ فَرَطاً) أي إسرافاً وباطلاً، وهذا يدل على أن أشر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق، ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق، لأن ذكر الله تعالى نور، وذكر غيره ظلمة. كذا قاله الشربيني. وقال الغزالي: وفي مفهوم ذلك زجر للفاسق (فاحذر صحبة الفاسق) فإنه يبيعك بأكلة أو بالطمع فيها ثم لا ينالها (فإن مشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية) وقوع (المعصية ويهون) أي يسهل (عليك أمرها) أي المعصية وتبطل نفرة القلب عنها (ولذلك) أي المذكور (هان على القلوب معصية الغيبة لألفهم) أي أنسهم ومحبتهم (لها ولو رأوا خاتماً) بفتح التاء (من ذهب أو ملبوساً من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه) أي الفقيه (والغيبة أشد) أي أعظم ذنباً (من ذلك) أي استعمال الذهب والحرير، كما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قلت للنبيصلى الله عليه وسلم حسبك من صفة أنها كذا وكذا، أي أنها قصيرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد قُلْتِ كلمةً لَوْ مُزِجَتْ بماءِ البَحْرِ لَمَزَجتْه". رواه الترمذي ومعنى مزجته خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها. قال العلماء: وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة، كذا في قمع النفوس لأبي بكربن الحصني
(الرابعة أن لا يكون) أي الرفيق (حريصاً) أي أجشع (على الدنيا) وفي بعض النسخ لا تصحب حريصاً (فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل لأن الطباع مجبولة) أي مخلوقة (على التشبه والاقتداء) بمن يقارنه (بل الطبع) السليم (يسرق من الطبع) الفاسد (من حيث لا يدري) الإنسان، وعبارة الإحياء من حيث لا يدري صاحبه (فمجالسة الحريص) على الدنيا تحرك الحرص و (تزيد في حرصك ومجالسة الزاهد) أي المعرض عن الدنيا تزهد في الدنيا و (تزيد في زهدك) أي في إعراضك عن الدنيا، وتركك لها وتقليلك منها، فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا، ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة قال علي رضي الله عنه: أحيوا الطاعات بمجالسة من يستحيا منه. وقال أحمدبن حنبل: ما أوقعني في بلية إلاّ صحبة من لا أحتشمه. وقال لقمان: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن القلوب لتحيا بالحكم كما تحيا الأرض الميتة بوابل القطر (الخامسة الصدق) في المقال والاعتقاد (فلا تصحب كذاباً) أي كثير الكذب في المقال (فإنك منه على غرور) أي جهل في الأمور وغفلة عنها (فإنه مثل السراب) بفتح الميم والثاء، أي لأن الكذاب صفته كصفة السراب الذي تراه نصف النهار كأنه ماء (يقرب) أي الكذاب (منك البعيد ويبعد منك القريب) ولا تصحب المبتدع، فصحبته خطر لسراية البدعة إليك، ولا تصحب البخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، ولا تصحب الجبان، فإنه يسلمك ويفر عند الشدة (ولعلك تعدم) بفتح الدال أي تفقد (اجتماع هذه الخصال) المذكورة (في سكان المدارس) هم العلماء والطلبة (والمساجد) وهم العباد (فعليك) أي الزم (بأحد أمرين إما العزلة والانفراد ففيها) أي العزلة (سلامتك) من الإثم (وإما أن تكون مخالطتك مع شركائك بقدر خصالهم بأن تعلم أن الإخوة) أي الأصحاب (ثلاثة) كما نقله الغزالي عن بشر (أخ لآخرتك فلا تراع) أي لا تلاحظ (فيه إلا الدين وأخ لدنياك فلا تراع فيه إلا الخلق الحسن) والأحوال المؤدية إلى الخيرات (وأخ لتأنس) بفتح النون أي ليسكن قلبك (به فلا تراع فيه إلا السلامة من شره) أي ظلمه (وفتنته) أي امتحانه (وخبثه) أي خديعته. قال أبو ذر رضي الله عنه: الوحدة خير من الجليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة. (والناس) الذين تتخذهم إخواناً (ثلاثة) كما نقله الغزالي عن المأمون (أحدهم مثله مثل الغذاء) بكسر الغين أي صفته وشأنه صفة الطعام والشراب وشأنهما (لا يستغنى عنه) وهم العلماء (والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط، ولكن العبد قد يبتلي به) أي يمتحن بالاجتماع مع من هو كصفة الداء (وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع) وهو الفاسق والمبتدع والكذاب والجبان (فتجب مداراته) أي ملاينته ومحابلته ومداعبته (إلى الخلاص منه) دفعاً لشره كما قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "مدارَاةُ النَّاسِ صَدَقَة" رواه ابن حبان والطبراني والبيهقي عن جابربن عبدالله، أي ملاطفة الناس بالقول والفعل يثاب عليها ثواب الصدقة (وفي مشاهدته) أي الذي هو كصفة الداء.
     (فائدة عظيمة إن وفقت) بالبناء للمجهول، أي إن وفقك الله (لها وهو أن تشاهد من خبائث أحواله وأفعاله ما تستقبحه) وفي نسخة ما تستخبثه (فتجتنبه فالسعيد من وعظ) بالبناء للمجهول (بغيره) والشقي من غلب شره على خيره (والمؤمن مرآة المؤمن) فيقيس نفسه بغيره في الأحوال والمقال مما يعجبه ويكرهه (وقيل لعيسى عليه السلام: من أدبك) أي من علمك الأدب فإنك ولدت من غير أب (فقال: ما أدبني أحد ولكن رأيت جهل الجاهل فاجتنبته ولقد صدق) أي سيدنا عيسى في مقالته (على نبينا وعليه الصلاة والسلام فلو) الفاء للتعليل أي لأنه لو (اجتنب الناس ما يكرهونه) من الأقوال والأفعال اللتين صدرتا (من غيرهم لكملت آدابهم واستغنوا عن المؤدبين) فإن العاقل ينظر تقلب الأزمنة، ويتأدب بحسبها ومثل جملة الناس كمثل النبات والأشجار، فمنها ماله ظل وليس له ثمر، وهو الذي ينتفع به في الدنيا دون الآخرة، فإن نفع الدنيا كالظل السريع الزوال، ومنها ماله ثمر وليس له ظل، وهو مثل الذي يصلح للآخرة دون الدنيا، ومنها ماله ثمر وظل جميعاً، ومنها ما ليس له واحد منهما فالأقسام أربعة: (الوظيفة الثانية مراعاة حقوق الصحبة) والإخوة (فمهما انعقدت الشركة) أي ارتبطت بين الشخصين كالنكاح بين الزوجين (وانتظمت) أي استقامت (بينك وبين شريكك الصحبة فعليك حقوق يوجبها عقد الصحبة) كما يوجب النكاح حقوقاً (وفي القيام بها) أي الحقوق (آداب) كثيرة (وقد قال) رسول الله (صلى الله عليه وسلم مَثَلُ الأَخَوَيْنِ مَثَلُ اليَدَيْنِ) بفتح الميم والثاء (تَغْسِلُ إحْدَاهُمَا الأخْرَى) وإنما شبههما رسول اللهصلى الله عليه وسلم باليدين لا باليد والرجل، لأنهما يتعاونان على غرض واحد، فكذا الإخوان إنما تتم إخوتهما إذا ترافقا في مقصد واحد، فهما من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السراء والضراء، والمشاركة في المال والحال (ودخل) رسول الله (صلى الله عليه وسلم أجمة) بفتح الأحرف الثلاثة، أي غيضة بفتح الغين وهي مجتمع الشجر (فاجتنى) أي أخذ (منها سواكين أحدهما معوج) بسكون العين وفتح الواو وتشديد الجيم (والآخر مستقيم وكان معه)صلى الله عليه وسلم (بعض أصحابه) وهو عبدالرحمنبن عوف أو عثمانبن عفان على اختلاف الروايات (فأعطاه) أي بعض أصحابه (المستقيم) منهما (وأمسك لنفسه المعوج فقال) لهصلى الله عليه وسلم (يا رسول الله أنت) واللَّهِ (أحق مني بالمستقيم فقال) رسول الله (صلى الله عليه وسلم ما مِنْ صاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِباً وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهارٍ إِلَّا وَيُسْأَلُ عَنْ صُحْبَتِهِ هَلْ أقامَ فيها) أي الصحبة (حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَضَاعَهُ) أي أهلكه، وهذا الحديث يدل على أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة، وخرج رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى بئر يغتسل عندها، فأمسك حذيفة الثوب، وقام يستر رسول اللهصلى الله عليه وسلم حتى اغتسل، ثم جلس حذيفة ليغتسل فتناول رسول اللهصلى الله عليه وسلم الثوب، وقام يستر حذيفة من الناس فأبى حذيفة وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تفعل، فأبى عليه السلام إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل. (وقال) رسول الله (صلى الله عليه وسلم: مَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ قَطُّ إلاّ وَكَانَ أحَبُّهُمَا إلى الله تَعَالَى أرْفَقَهُمَا بِصَاحِبِهِ. وآداب الصحبة) اثنا عشر: الأول (الإيثار) أي الإكرام (بالمال) على وجه تقديم صاحبه على نفسه (فإن لم يكن هذا) أي الإيثار (فبذل الفضل) أي إعطاؤه (من المال) ولو قليلاً (عند الحاجة) أي حاجة صاحبه.
     والحاصل أن المواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب: أدناها أن تنزل صاحبك منزلة عبدك أو خادمك، فتقوم بحاجته من فضلة مالك فإذا كانت له حاجة، وكان عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء، ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى ذلك فهو غاية التقصير في حق الإخوة، الثانية أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك، ونزول منزلتك حتى تسمح بمشاطرته على المال. والثالثة وهي العليا أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك عند تساويهما في الحاجة، وهذه رتبة الصديقين ومنتهى رتبة المتحابين، أما القرب فيكره الإيثار بها (و) الثاني (الإعانة بالنفس في) قضاء (الحاجات) والقيام بها (على سبيل المبادرة من غير إحواج إلى التماس) أي طلب وتقديمها على الحاجات الخاصة،  فإن ذلك أبلغ في التواضع، وهذه أيضاً لها درجات، كما للمواساة بالمال، فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة (و) الثالث (كتمان السر) الذي بثه صاحبه إليه، ولا يبثه إلى غيره ألبتة ولا إلى أخص أصدقائه ولا يكشفه، ولو بعد القطيعة والوحشة، فإن ذلك من لؤم الطبع، وخبث الباطن (وستر العيوب) التي علمها في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه، وإن تعلق بها حد لله تعالى طلباً للستر المستحب ولو مع المصارمة (والسكوت على تبليغ ما يسوءه) أي يحزنه (من مذمة الناس إياه) فإن الذي سبك من بلغك وبالجملة، فليسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلاً، إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ولم يجد رخصة في السكوت، فإذ ذاك لا يبالي بكراهته، فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق (و) الرابع (إبلاغ ما يسره من ثناء الناس عليه) مع إظهار الفرح فإن إخفاء ذلك محض الحسد وقد قال عليه السلام: "إِذا أَحَبَّ أحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ" (وحسن الإصغاء عند الحديث وترك المماراة فيه) وترك التجسس والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده، ولا يسأل فربما يثقل عليه ذكره، أو يحتاج إلى أن يكذب فيه (و) الخامس (أن يدعوه بأحب أسمائه إليه) في غيبته وحضوره (وأن يثني عليه بما يعرف من محاسنه) أي محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده، فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة، وكذلك الثناء على أولاده وأهله حتى على علمه وتصنيفه، وجميع ما يفرح وذلك من غير كذب وإفراط (وأن يشكره على صنيعه) أي فعله الحسن (في حقه) وهو موافق للإحياء، وفي نسخة في وجهه بل يشكره على نيته، وإن لم يتم ذلك. قال علي رضي الله عنه: من لم يحمد أخاه على حسن النية، لم يحمده على حسن الصنيعة (وأن يذب) أي يدفع (عنه في غيبته إذا تعرض) بالبناء للمفعول (لعرضه) بكسر العين، أي قصد بسوء بكلام صريح أو تعريض (كما يذب عن نفسه) وهذا أعظم تأثيراً في جلب المحبة، فإن حق الإخوة التشمير في الحماية والبصرة، وتبكيت المتعنت، وتغليظ القول عليه، وإنما شبه رسول اللهصلى الله عليه وسلم الأخوين باليدين تغسل إحداهما الأخرى، لينصر أحدهما الآخر، وينوب عنه (وأن ينصحه باللطف والتعريض) فيما فيه صلاح شأنه ويتأكد عليه (إذا احتاج إليه) أي النصيحة بأن يذكر آفات ذلك الفعل، وفوائد تركه وتخوفه بما يكرهه في الدنيا والآخرة لينزجر عنه، وينبهه على عيوبه، ولكن ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ، فهو مقابح وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة، وقال الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. (و) السادس (أن يعفو عن زلته وهفوته) في دينه بارتكاب معصية أو في حقه بتقصيره في الإخوة، ولو مع القدرة على الانتقام منه إذ هو أعظم في الأجر (ولا يعتب) أي لا يلوم (عليه) بسخط أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية أو الإصرار عليها، فعليك التلطف في نصحه مما يعيده إلى الصلاح، وأما زلته في حقه فلا خلاف في أن الأولى العفو والاحتمال، فقد قيل ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذراً، فإن لم يقبله قلبك فرد اللوم على نفسك، فتقول لقلبك. ما أقساك يعتذر إليك بسبعين عذراً، فلا تقبله فأنت المعيب لا أخوك، فإن ظهر بحيث لم يقبل التحسين، فينبغي أن لا تغضب إن قدرت، ولكن ذلك لا يمكن وقد قال الشافعي: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضي فلم يرضَ فهو شيطان، فلا تكونن حماراً ولا شيطاناً، واسترض قلبك بنفسك نيابة عن أخيك، واحترز أن تكون شيطاناً إن لم تقبل (و) السابع (أن يدعو له في خلوته في حياته وبعد مماته) بكل ما يحبه لنفسه ولأهله، فتدعو له كما تدعو لنفسك، ولا تفرق بين نفسك وبينه فإن دعاءك له دعاء لنفسك على التحقيق فقد قالصلى الله عليه وسلم: إذا دعا الرجل لأخيه في ظهر الغيب قال الملك: ولك مثل ذلك، وفي لفظ آخر يقول الله تعالى: بك أبدأ، وفي الحديث يستجاب للرجل في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه، وفي الحديث دعوة الرجل لأخيه في ظهر الغيب لا ترد (و) الثامن (أن يحسن الوفاء) وهو الثبات على الحب وإدامته إلى الموت (مع أهله) أي أولاده (وأقاربه) أي أصدقائه (بعد موته) كالذي قبله، فإن الحب إنما يراد للآخرة فإن انقطع بعد الموت حبط العمل وضاع السعي (و) التاسع (أن يؤثر) أي يختار (التخفيف عنه فلا يكلفه شيئاً من حاجاته) أي لا يكلف أخاه ما يشق عليه (فيروح سره) أي قلبه كما في نسخة (من مهماته) أي أموره الشديدة، فلا يستمد منه من جاه ومال دفعاً للسآمة المقتضية للتنافر، ولا يكلفه التواضع له، بل لا يقصد بمحبته إلا الله تعالى تبركاً بدعائه، واستئناساً بلقائه واستعانة على دينه، وتقرباً إلى الله تعالى بالقيام بحقوقه وتحمل مؤنته (وأن يظهر الفرح بجميع ما يرتاح) أي ينشط (له من مساره) جمع مسرة بمعنى فرح (و) يظهر (الحزن) بفتحتين مصدر قياسي، أو بضم فسكون اسم مصدر (على ما يناله من مكارهه وأن يضمر في قلبه مثل ما يظهر فيكون صادقاً في وده) بفتح الواو وضمها وكسرها أي محبته (سراً وعلانية) فإن الإخلاص في الإخاء استواء الغيب والشهادة، واللسان والقلب والسر والعلانية، والجماعة والخلوة ومن لم يكن مخلصاً في إخائه فهو منافق في الصحبة، ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد، فالانقطاع أولى من المؤاخاة. قال بعض الحكماء: ظاهر العتاب خير من مكمون الحقد، وإذا أراد شخص أن يعرف محبة صاحبه له، فلينظر محبته له كما قال بعضهم من الطويل:
سَلُوا عَنْ مَوَدَّاتِ الرِّجَال قُلُوبَكُمْ >< فَتلْكَ شُهُودٌ لَمْ تَكُنْ تَقْبَلُ الرُّشَا
وَلاَ تَسْأَلُوا عَنْهَا العُيُونَ لأَنَّها >< تُشِيرُ لِشَيْءٍ ضِدَّ مَا أَضْمَرَ الحَشَا
(و) العاشر (أن يبدأه بالسلام عند إقباله) وفي نسخة إذا لقيه وكذا يفعل لمن لا يعرفه (وإن يوسع له في المجلس) قال عمر رضي الله عنه ثلاث يصفين لك: ود أخيك أن تسلم عليه إذا لقيته أولاً، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه (و) الحادي عشر (إن يخرج له من مكانه وأن يشيعه) بتشديد الياء أي يتبعه (عند قيامه) إكراماً له إلا أن يمنعه (و) الثاني عشر (أن يصمت عند كلامه حتى يفرغ من كلامه ويترك المداخلة في كلامه) وأن يجيبه إذا دعاه ولو إلى كراع، وأن يعوده ولو مرة إذا مرض أو رمد ويشهد جنازته إذا مات، وإن لم يصل عليه حيث صلى عليه غيره، ويبر قسمه إذا أقسم عليه في مباح (وعلى الجملة) أي أقول قولاً على الجملة (فيعامله بما يحب أن يعامل به) من طاعة ومباح وقول وفعل، فإن ذلك من كمال الإيمان، وكان سهلبن عبدالله يقول من كف أذاه عن الخلق مشى على الماء، أي عند إرادة إظهار كرامته للحاجة إذ قد يجب على الولي إخفاء الكرامة الأولوية إلا لحاجة كما نقله الرملي عن الشيخ خليل (فمن لا يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه فأخوته نفاق وهي) أي الإخوة (عليه وبال) أي ثقل (في الدنيا والآخرة) وحق الصحبة ثقيل لا يطيقه إلا محقق، ولا شك أن أجره جزيل لا يناله إلا موفق، ولذلك قال عليه السلام "أَبَا هِرَ أَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَأَحْسِنْ مُصَاحَبَة مَنْ صَاحَبَك تَكُنْ مُؤْمِناً" (فهذا) أي المذكور كله (أدبك في حق العوام المجهولين) أي الذين لا تعرفهم (وفي حق الأصدقاء المؤاخين) أي العاقدين عقد الإخوة (وأما القسم الثالث وهم المعارف) أي غير الأصدقاء (فاحذر منهم فإنك لا ترى) أي لا تجد (الشر إلا ممن تعرفه أما الصديق) وهو الصادق في المودة (فيعينك) في شأنك (وأما المجهول فلا يتعرض لك) بشيء (وإنما الشر كله) حاصل (من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم) ويخفون العداوة في بواطنهم (فأقلل من المعارف ما قدرت فإذا بليت بهم) أي بالمخالطة معهم (في مدرسة) للعلماء وهو محل درس العلوم (أو مسجد أو جامع) وهو محل إقامة الجمعة (أو سوق أو بلد فيجب) عليك (أن لا تستصغر) أي تستحقر (منهم أحداً) ولو أقل الخلق صورة (فإنك لا تدري لعله خير منك) عند الله تعالى،  وفي الحديث بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم فتهلك) بسبب حبك الدنيا كما قالصلى الله عليه وسلم: "مَن تَوَاضَعَ لِغَنِيَ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ" (لأن الدنيا صغيرة) أي حقيرة (عند الله تعالى صغير ما فيها) لأن الله تعالى لم ينظر إليها منذ خلقها (ومهما عظم أهل الدنيا في قلبك فقدسقطت من عين الله تعالى) أي عين المحبة لأن الدنيا عدوة لله تعالى ولأوليائه، وفي الحديث: "حُبُّ المَالِ وَالشَّرَفِ يُنْبِتَانِ النِّفَاقَ فِي القَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ المَاءُ البَقْلَ" (وإياك) أي احذر (أن تبذل لهم) أي تعطيهم (دينك لتنال به) أي ببذل الدين (من دنياهم) فذلك خسران عظيم (فلا يفعل ذلك أحد إلا صغر في أعينهم ثم حرم) أي منع (ما عندهم) من الأموال كما هو المشاهد بين الناس قوله فلا يفعل الفاء للتعليل (وإن عادوك فلا تقابلهم بالعداوة فإنك) الفاء للتعليل، أي لأنك (لا تطيق الصبر على مكافأتهم) أي مساواتهم في العداوة (فيذهب دينك في عداوتهم) وفي نسخة فيهم (ويطول عناؤك) أي تعبك ومشقتك (معهم) بالمقابلة (ولا تسكن) أي لا تمل بقلبك (إليهم في حال إكرامهم إياك) بالمال والفعل والقول (وثنائهم عليك في وجهك) وفي غيبتك (وإظهارهم المودة) أي المحبة (لك) بالقول وبإتيان ما تحبه (فإنك إن طلبت حقيقة ذلك) أي المذكور من الإكرام والثناء والمودة (لم تجد في المائة) من الأشخاص (واحداً) قال بعضهم من بحر الكامل المجزوء:
خُذْ مِنْ خَلِيْلِكَ مَا صَفَا >< وَدَعِ الَّذِي فيه الكَدَرْ
 فالعُمْرُ أَقْصَرُ مِنْ مُعَا >< تَبَةِ الخَلِيل عَلَى الغِيَرْ
(ولا تطمع) أي لا تأمل (أن يكونوا لك في السر والعلن واحداً) على حال واحدة من الثناء ونحوه (ولا تتعجب أن ثلبوك) أي عابوك (في الغيبة) وفي بعض النسخ في غيبتك (ولا تغضب منه) لأجل ذلك (فإنك إن أنصفت) أي عاملت بالعدل (وجدت من نفسك مثل ذلك) أي مثل فعل أخيك (حتى) أنك قد فعلت مثل ذلك (في أصدقائك وأقاربك بل في أستاذك ووالديك فإنك تذكرهم في الغيبة) أي في غيبتهم (بما لا تشافههم) أي لا تخاطبهم من فيك إلى فيهم (به واقطع طمعك عن مالهم وجاههم ومعونتهم) بأبدانهم (إن الطامع في الأكثر) أي الغالب (خائب) أي غير نائل لما يطلبه (في المآل) أي عاقبة أمره (وهو) أي الطامع (ذليل لا محالة) بفتح الميم أي لا بد (في الحال) أي في ذلك الوقت. كما قال بعضهم من بحر الكامل المضمر في الأكثر المجزوء:
العَبْدُ حُرٌّ إنْ قَنِعْ >< وَالحُرُّ عَبْدٌ إِنْ طَمِعْ
فاقْنَعْ وَلا تَطْمَعْ فما >< شَيْءٌ يُشِينُ سِوَى الطَّمَعْ
الماضي الأول مكسور عينه. والثاني مفتوحه. وفعل الأمر والنهي مفتوحة عين كلتيهما، لأن قنع يقنع بفتح العين في الماضي والمضارع هو بمعنى سأل وتذلل، ومصدره قنوعاً، وإن قنع يقنع بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع هو بمعنى رضي بالقسم، ومصدره قنعاً وقناعة قال لبيد من بحر الطويل:
فمِنْهُمْ سَعِيدٌ آخِذٌ بِنَصِيبِهِ >< وَمِنْهُمْ شَقِيٌّ بِالْمِعيشَةِ قانِعُ
(وإذا سألت واحداً) من الناس (حاجة فقضاها فاشكر الله تعالى) على قضاء حاجتك (واشكره) فإنه لا يكمل الشكر لله تعالى إلا مع الشكر للوسيلة كما قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى" أي شكراً كاملاً. وقال أيضاً: "مَنْ أَسْدَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِؤُوهُ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلى مُكافأتِهِ فادْعُوا لَهُ" وقال أيضاً: "مَنْ أَسَدَى إِلى قَوْمٍ نِعْمَةً فَلَمْ يَشْكُرُوها لَهُ فَدَعَا عَلَيْهُمُ اسْتُجِيبَ لَهُ" (وإن قصر) أي للواحد في حقك (فلا تعاتبه) قال أبو سليمان الداراني: لأحمد بن أبي الحواري: إذا واخيت أخاً في هذا الزمان، فلا تعاتبه على ما تكرهه، فإنك لا تأمن من أن ترى في جوابك ما هو شر من الأول. قال أحمد: فجربته فوجدته كذلك، وقال بعضهم: الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته، والمعاتبة خير من القطيعة، والقطيعة خير من الوقيعة. (ولا تشكه) أي تخبر الناس بسوء فعله بك (فتصير عداوة) له (وكن كالمؤمن يطلب المعاذير) جمع معذرة (ولا تكن كالمنافق يطلب العيوب وقل) في نفسك إذا قصر صاحبك (لعله قصر) في حقي (لعذر له لم أطلع عليه) أي العذر (ولا تعظم أحداً منهم) أي المعارف (ما لم تتوسم) أي تنظر بقلبك (فيه) أي الأحد (أولاً) أي قبل الوعظ (مخايل القبول) أي دلائله (وإلا) يكن الأمر كذلك بأن تعظه قبل ثبوت دلائل القبول (لم يستمع) أي الأحد (منك) أي سماع قبول (وصار خصماً عليك فإذا أخطؤوا في مسألة وكانوا يأنفون) أي يستنكفون ويمتنعون (من التعلم) أي الاستفادة (منك) وفي نسخة من كل أحد (فلا تعلمهم فإنهم يستفيدون منك علماً ويصبحون) أي يصيرون (لك أعداء إلا إذا تعلق ذلك) أي الخطأ في المسألة (بمعصية يقرفونها) أي المعصية أي يفعلونها، وفي نسخة يأتونها (عن جهل منهم فاذكر الحق) وجوباً (بلطف من غير عنف وإذا رأيت منهم) أي المعارف (كرامة وخيراً) أي إكراماً وإحساناً بمال وأفعال (فاشكر الله الذي حببك إليهم) أي صيرك محبوباً عندهم (وإذا رأيت منهم شراً) في الأقوال والأفعال (فكلهم) أي فوض وسلم أمورهم (إلى الله تعالى) واكتف به تعالى (واستعذ) أي اعتصم (بالله من شرهم ولا تعاتبهم) العتاب في السر خير من القطيعة والتعريض به خير من التصريح، والمكاتبة خير من المشافهة، والاحتمال خير من الكل. (ولا تقل لهم لم لم تعرفوا حقي وأنا فلان ابن فلان وأنا الفاضل في العلوم فإن ذلك) أي القول (من كلام الحمقى) أي الذين قلت عقولهم (وأشد الناس) أي أعظمهم (حماقة) أي فساداً في العقل (من يزكى نفسه) أي يمدحها في كثرة خيراته (ويثني عليها) بكثرة العلم وبالانتساب إلى الفضلاء والعلماء (واعلم أن الله تعالى لا يسلطهم) أي لا يجعلهم قاهرين (عليك بذلك) الشر (إلا لذنب سبق منك) ولو بعد سنين (فاستغفر الله من ذنبك) كل وقت. وفي رواية ابن حبان إن كنا لنعد لرسول اللهصلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد "رَبي اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"مائة. وقال الشاذلي رحمه الله تعالى: عليك بالاستغفار، وإن لم يكن هناك ذنب. (واعلم أن ذلك) أي الشر الذي جاء منهم (عقوبة من الله تعالى) لك في الدنيا (وكن فيما بينهم سميعاً لحقهم) أي لكلامهم الحق (أصم عن باطلهم) بأن لا تذيعه بين الناس إما أن تنصحهم بطريق اللطف، وإما أن تهمله مرة واحدة (نطوقاً بمحاسنهم) بأن تشيعها بين الناس مع إظهار الفرح بها (صموتاً عن مساويهم) أي معايبهم ومعاصيهم ستراً لهم فرحم الله أمرأ رأى سيئة لأخيه فسترها (واحذر مخالطة متفقهة الزمان لا سيما المشتغلين بالخلاف) أي بعلم الخلاف من بين العلماء (والجدال) أي العلم المؤدي إلى المجادلة (واحذر منهم فإنهم يتربصون) أي ينتظرون (بك لحسدهم ريب المنون) أي حوادث الدهر (ويقطعون عليك) في كل شيء (بالظنون) أي إنهم يعملون ظنونهم السيئة، وإن أكثر الظنون ميون (ويتغامزون) أي يشيرون (وراءك بالعيون) مستهزئين بك (ويحصون) بضم الياء والصاد يعدون (عليك عثراتك) أي زلاتك (في عشرتهم) بكسر فسكون، أي في قوت مخالطتهم بعضهم مع بعض (حتى يجبهوك) بتشديد الموحدة بعد الجيم أو بسكون الجيم وفتح الموحدة (بها) حتى يستقبلوك بتلك العثرات، كأنهم ضربوك بحجر في جبهتك (في حال) أي في وقت (غيظهم) أي غضبهم المحيط بالكيد عليك (ومناظرتهم) أي مجادلتهم معك (لا يقيلون) أي لا يرفعون (لك عثرة) أي سقطة (ولا يغفرون لك زلة) أي خطأ في منطقك وفعلك (ولا يسترون لك) وفي نسخة عليك (عورة) أي عيباً (يحاسبونك على النقير والقطمير) وهذا كناية عن أدنى الأشياء فكيف بما فوقه، والأشياء التي يضرب بها المثل في القلة أربعة: النقير وهو النكتة التي في ظهر النواة. والقطمير وهو القشرة الرقيقة التي بين النواة. والتمر والفتيل وهو ما يكون في شق النواة. والرقرقوق وهو ما بين القمع والنواة (ويحسدونك على القليل والكثير) من النعمة (ويحرضون) أي يحثون (عليك الإخوان بالنميمة) أي السعي بالحديث لإيقاع فتنة أو وحشة، وفي الحديث لا يدخل الجنة قتات أي نمام (والبلاغات) بفتح الباء ثم باللام، أي الوشايات وهو الكلام الكذب أو السعي بالكلام عند نحو السلطان (والبهتان) أي بالقول عليك لما لم تفعله (إن رضوا) عنك (فظاهرهم الملق) أي اللطف الشديد (وإن سخطوا) عليك (فباطنهم الحنق) بالحاء المهملة والنون المفتوحتين ثم القاف، أي الغيظ (ظاهرهم ثياب) تنتفع بها (وباطنهم ذئاب) تهلك
     (هذا) أي المذكور حكم (ما قطعت) أي جزمت (به المشاهدة) أي المعاينة (على أكثرهم إلا من عصمه الله تعالى) أي وقاه فلا تتصف بهذه الصفة الرذيلة (فصحبتهم) أي هؤلاء الموصوفين بما ذكر (خسران) أي هلاك في دينه ودنياه (ومعاشرتهم) أي مخالطتهم (خذلان) أي عدم حصول النصرة (هذا) أي المذكور (حكم من يظهر لك الصداقة) بلسانه (فكيف من يجاهرك بالعداوة قال القاضي ابن معروف رحمه الله تعالى) نظماً من الكامل المجزوء المرفل في الضرب:
فاحْذَرْ عَدُوَّكَ مَرَّةً >< وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ ألْفَ مَرَّهْ
فَلَرُبَّما انْقَلَبَ الصَّدِي >< ـقُ فَكانَ أَعْرَفَ بِالمَضَرَّهْ
(وكذلك قال ابن تمام) في معنى ذلك، وفي نسخة أبو تمام نظماً من بحر الوافر:
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ >< فلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحَابِ
فَإِنَّ الدَّاءَ أكْثَرَ ما تَرَاهُ >< يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أو الشَّرَابِ
وكان أبو سعيد الثوري يقول: إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه، ثم دس عليه من يسأله عنك، وعن أسرارك، فإن قال خيراً وكتم سرك فاصحبه. وقال ذو النون لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصوماً، ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم، وقد قال بعض الحكماء: لا تصحب من يتغير عند أربع: عند غضبه ورضاه وعند طمعه وهواه، بل ينبغي أن يكون صدق الإخوة ثابتاً على اختلاف الأحوال كما قال بعضهم من بحر الكامل:
وَتَرَى الكَرِيمَ إذا تَصَرَّمَ وَصْلُهُ >< يُخْفِي القَبيحَ وَيُظْهِرُ الإحْسَانا
وَتَرَى اللَّئِيمَ إذا تَقَضَّى وَصْلُهُ >< يُخْفِي الجَمِيلَ وَيُظْهِرُ البُهْتَانا
(وكن)أي الطالب للخير (كما قال هلالبن العلاء الرقي) نظماً من بحر البسيط والرقة اسم موضوع:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أحَدٍ >< أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ العَدَاوَاتِ
إِنِّي أُحَيي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ >< لأدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
أعني من السلام والبشر والتبسم، والمجروران والظرف متعلقان بأحيي، ويحسن أن يتعلق المجرور الأخير بأدفع وفي نسخة: حين أنظره، بدل عند رؤيته:
وَأظْهِرُ البِشْرَ للإنْسَانِ أبْغِضُهُ >< كَأَنَّهُ قَدْ مَلا قَلْبي مَسَرَّاتِ
وَلَسْتُ أَسْلَمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ >< فَكَيْفَ أسْلَمُ مِنْ أهْلِ المَوَدَّاتِ
البشر بكسر الباء هو طرقة الوجه وفي نسخة وأحسن البشر:
النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ تَرْكُهُمُ >< وَفي الجَفَاءِ لهم قَطْعُ الأُخُوَّاتِ
فَسَالِمِ النَّاسَ تَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِهِمْ ><,وَكُنْ حَرِيصاً عَلى كَسْبِ التَّقِيَّاتِ
وفي نسخة على كسب المودات والمراد بقوله تركهم عدم تغييرهم عن حالهم، وليس المراد به اجتنابهم بدليل قوله: وفي الجفاء إلى آخره، أي وفي الإعراض عنهم بالكلية قطع الإخوات وقوله تركهم بضم الميم للوزن، وقوله من غوائلهم أي من شرورهم:
وَخَالِقِ النَّاسَ وَاصْبِرْ ما بُلِيتَ بِهِمْ >< أَصَمَّ أَبْكَمَ أَعْمَى ذَا تَقِيَّاتِ
وقوله وخالق الناس، أي كن معهم موافقاً في أحوالهم كما قيل: خالطوا الناس بأبدانكم، وزايلوهم بقلوبكم وفي نسخة: فخالط الناس، وفي نسخة: ما بقيت بهم وقوله. أصم أبكم أعمى ذا تقيات كل منهما حال من فاعل خالق أو خالط، وأشار هلال بهذه الأبيات السبعة إلى أن شأن الناس صعب جداً. كما قال الشافعي نظماً من البسيط:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أحَدٍ >< أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ العَدَاوَاتِ
إِنِّي أُحَيي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ >< لأدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
أعني من السلام والبشر والتبسم، والمجروران والظرف متعلقان بأحيي، ويحسن أن يتعلق المجرور الأخير بأدفع وفي نسخة: حين أنظره، بدل عند رؤيته:
وَأظْهِرُ البِشْرَ للإنْسَانِ أبْغِضُهُ >< كَأَنَّهُ قَدْ مَلا قَلْبي مَسَرَّاتِ
وَلَسْتُ أَسْلَمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ >< فَكَيْفَ أسْلَمُ مِنْ أهْلِ المَوَدَّاتِ
البشر بكسر الباء هو طرقة الوجه وفي نسخة وأحسن البشر:
النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ تَرْكُهُمُ >< وَفي الجَفَاءِ لهم قَطْعُ الأُخُوَّاتِ
فَسَالِمِ النَّاسَ تَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِهِمْ >< وَكُنْ حَرِيصاً عَلى كَسْبِ التَّقِيَّاتِ
وفي نسخة على كسب المودات والمراد بقوله تركهم عدم تغييرهم عن حالهم، وليس المراد به اجتنابهم بدليل قوله: وفي الجفاء إلى آخره، أي وفي الإعراض عنهم بالكلية قطع الإخوات وقوله تركهم بضم الميم للوزن، وقوله من غوائلهم أي من شرورهم:
وَخَالِقِ النَّاسَ وَاصْبِرْ ما بُلِيتَ بِهِمْ >< أَصَمَّ أَبْكَمَ أَعْمَى ذَا تَقِيَّاتِ
وقوله وخالق الناس، أي كن معهم موافقاً في أحوالهم كما قيل: خالطوا الناس بأبدانكم، وزايلوهم بقلوبكم وفي نسخة: فخالط الناس، وفي نسخة: ما بقيت بهم وقوله.أصم أبكم أعمى ذا تقيات كل منهما حال من فاعل خالق أو خالط، وأشار هلال بهذه الأبيات السبعة إلى أن شأن الناس صعب جداً. كما قال الشافعي نظماً من البسيط:
النَّاسُ دَاءٌ دفِينٌ لا دَوَاءَ لَهُمْ >< تَحَيَّرَ العَقْلُ مِنْهُمْ فَهُوَ مُنْذَهِلُ
إِنْ كُنْتَ مُنْبَسِطاً سَمَّوْكَ مَسْخَرَةً >< أوْ كُنْتَ مُنْقَبِضاً قالوا بهِ ثِقَلُ
وَإِنْ تُخَالِطْهُمُ قالوا بهِ طَمَعٌ >< وَإنْ تُجانِبْهُمُ قالوا بهِ مَلَلُ
وَإنْ تَعفَّفْتَ عَنْ أمْوَالِهِمْ كَرَماً >< قَالوا غَنِيٌّ وَإنْ تسْألْهُمُ بَخِلُوا
إِنّي تَحَيَّرْتُ في أمْرِي وَأمْرِهُمُ >< شِبْهَ النَّعَامَةِ لا طَيْرٌ وَلاَ جَمَلُ
وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُم لاَ تَسَعَوْنَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمُ وَلَكِنْ يَسَعَهُمْ مِنْكُمُ بَسْطُ وَجْهٍ وَحُسْنُ خُلْقٍ" (وكن) أيها المريد للخير (أيضاً) ملازماً لآداب المعيشة، والمجالسة مع أصناف الخلق، وهي (كما قال بعض الحكماء)وهم من عندهم علم وحكمة (الق صديقك وعدوك بوجه الرضا) أي بوجه دال على الرضا وهو طلق الوجه (من غير مذلة لهما ولا هيبة) أي خوف (منهما وتوقر) أي كن حليماً عند اللقاء (من غير كبر وتواضع) عند اللقاء (من غير مذلة وكن في جميع أمورك في أوسطها. فكلا طرفي قصد الأمور) أي وسطها (ذميم) أي مذموم عند الله وعند الناس (كما قيل) من بحر الطويل:
عَلَيْكَ بأَوْسَاطِ الأمُورِ فَإِنَّها >< طَرِيقٌ إلى نَهْجِ الصِّرَاطِ قَوِيمُ
وَلاتَكُ فيها مُفْرِطاً أوْ مُفَرِّطاً >< فَإِنَّ كِلا حالِ الأمُورِ ذَمِيمُ
ومعنى مفرطاً بسكون الفاء، أي مسرفاً مجاوزاً الحد، ومفرطاً بتشديد الراء، أي مقصراً وناقصاً. وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الأُمُورِ أوْسَاطُهَا". (ولا تنظر) على سبيل الإعجاب (في عطفيك) بكسر العين، أي جانبيك يميناً وشمالاً بأن تنظر شيئاً بلحاظ عينك (ولا تكثر الالتفات إلى ورائك) وفي نسخة إذا مشيت بدل ورائك (ولا تقف على الجماعات) أي الجالسين إذا مشيت من غير حاجة دينية أو دنيوية (وإذا جلست) مع الناس (فلا تستوفز) أي فلا ترفع رجليك غير مطمئن (وتحفظ من تشبيك أصابعك) أي إدخال بعضها في بعض، فإنه يورث النعاس وإنه من الشيطان (و) من (العبث) بفتح العين والباء أي اللعب (بلحيتك وخاتمك) بفتح التاء (و) من (تخليل أسنانك وإدخال أصابعك في أنفك و) من (كثرة بصاقك) بالصاد وقد يبدل بالزاي، وإذا بصقت فابصق في جهة يسراك (وتنخمك) أي رمي نخامتك، وهي ما يخرج من الحلق من مخرج الخاء المعجمة، وما يخرج من الخيشوم عند التنحنح (و) من (طرد الذباب عن وجهك و) من (كثرة التمطي) أي مد البدن واليدين (والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة وغيرها) وإذا تثاءبت فغط فمك بظهر يدك اليسرى دفعاً للشيطان، لأن التثاؤب من الشيطان (وليكن مجلسك هادئاً) أي ساكناً من الأصوات (وحديثك منظوماً) أي مجتمعاً في خصلة واحدة (مرتباً واصغ) بفتح الغين أي مل (إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط) أي كثير (ولا تسأله) أي من حدثك (إعادته) أي الحديث إلا إن كان في الإعادة مصلحة (واسكت عن المضاحك) أي الأمور المضحكة (والحكايات) أي لا تضحك من ذلك، وفي نسخة ولا تستكثر الحكايات (ولا تحدث عن إعجابك بولدك) ولا جاريتك (و) لا (شعرك) وهو النظم الموزون وحده ما تركب تركيباً متقاصداً، وكان مقفى مقصوداً به ذلك، فما خلا من هذه القيود أو من بعضها، فلا يسمى شعراً ولا يسمى قائله شاعراً (و) لا (كلامك و) لا (تصنيفك) في العلوم (وسائر ما يخصك ولا تتصنع) أي لا تتكلف لأجل الناس حسن هيئة أهل الخير (تصنع المرأة في التزين ولا تتبذل) أي لا تمتهن في الثياب (تبذل العبد وتوق) أي تجنب (كثرة) استعمال (الكحل) والتكحل مطلوب كل ليلة (و) توق (الإسراف) أي الزيادة عن التوسط (في الدهن) لجميع البدن، والتدهين للبدن مطلوب وقتاً دون وقت (ولا تلح) أي لا تواظب مقبلاً (في الحاجات) أي في طلبها من الناس (ولا تشجع) أي لا تغر (أحداً على) إتيان (الظلم) لأحد فمن أعان على معصية كان شريكاً فيها (ولا تعلم أحداً من أهلك) أي زوجتك (وولدك فضلاً عن غيرهم) أي عدم إعلامك غيرهم أولى بالانتفاء (مقدار ما) ثبت (لك) من المرتبة (فإنهم إن رأوه) أي المقدار (قليلاً هنت) أي حقرت (عليهم وإن رأوه كثيراً لم تبلغ قط رضاهم) وجعل ما موصولة أو نكرة موصوفة هو ما عليه شيخنا يوسف السنبلاويني، ويصح أن يكون قوله مالك بكسر اللام مضاف ومضاف إليه كما عليه الشيخ عبد الصمد، والضميران اللذان بعده عائدان إليه (واجفهم) أي تباعد عنهم إذا أخطؤوا، وفي الإحياء وخوفهم (من غير عنف) وهو ضد الرفق (ولن) أي تلطف (لهم من غير ضعف ولا تهازل) أي لا تمازح (أمتك ولا عبدك فيسقط وقارك) أي تعظيمك (من قلوبهم) وفي نسخة في قلوبهم وفي نسخة فيسقطوك، وكذا بقية الناس، ولذا قيل لا تظهر بياض أسنانك للإنسان، فيظهر لك سواد دبره (وإذا خاصمت) مع الناس (فتوقر) أي فكن حليماً أو بجل نفسك ليكون الناس تابعين لقولك، كذا قال الشيخ عبدالصمد (وتحفظ) عند المخاصمة (من جهلك) بأن تفعل أو تقول ما يخالف الشرع (وعجلتك) أي إسراعك في الجواب، وفي الغضب، وفي الإحياء وتجنب عجلتك (وتفكر في حجتك) أي في جوابك (ولا تكثر الإشارة بيدك) أي في حال المخاصمة (ولا تكثر الالتفات إلى من) أي شخص (وراءك ولا تجث) أي لا تجلس (على ركبتيك) أي حال الخصام (وإذا هدأ) أي سكن (غضبك فتكلم) بل ينبغي لك أن تسكت حتى تتوضأ (وإذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان) أي السيف فإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك، وارفق به رفق الصبي وكلمه بما يشتهيه ما لم يكن معصية، ولا يحملنك لطفه بك أن تدخل بينه وبين أهله وولده وحشمه، وإن كنت لذلك مستحقاً عنده فإن سقطة الداخل بين الملك، وبين أهله سقطة لا تنعش وزلة لا تقال (وإياك وصديق العافية) أي احذر تلاقيك والصاحب الذي يصاحبك في وقت صحتك وغناك، ولا يصاحبك حالة مرضك وفقرك (فإنه) أي من ذكر (أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك) بكسر العين أي نفسك ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط، فليذكر الله عند قيامه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُر فِيه لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذ?لِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ"
     (فهذا القدر) أي المذكور في هذا الكتاب (يا فتى) أي يا من يبتديء في علم التصوف (يكفيك من بداية الهداية فجرب بها) أي بالبداية (نفسك) أي الأمارة واللوامة (فإنها) أي تلك البداية (ثلاثة أقسام قسم في آداب الطاعات) أي الظاهرة والباطنة (وقسم في ترك المعاصي) كذلك (وقسم في مخالطة الخلق) كما عرفته أولاً (وهي) أي بداية الهداية (جامعة لجمل معاملة العبد مع الخالق) عز وجل (والخلق) وهذا المجموع يسمى تقوى والدين الكامل، وهو زاد للآخرة (فإن رأيتها) أي بداية الهداية أي وجدتها (مناسبة) أي قريبة (لنفسك ورأيت) أي وجدت (قلبك مائلاً إليها) أي البداية (راغباً) أي مريداً (في العمل بها) أي بمطلوبها (فاعلم أنك عبد) من عباد الله تعالى (نور الله تعالى بالإيمان) الكامل (قلبك) السليم (وشرح) أي كشف (به) أي بالإيمان (صدرك) فاشكر الله تعالى الذي هداك إلى ذلك، واطلب منه استقامتك (وتحقق) بصيغة الماضي أي ثبت (إن لهذه البداية نهاية) كما علمت أولاً (ووراءها) أي النهاية أي بعدها (أسراراً وأغواراً) أي دقائق، وقد ذكرتها أولاً في هذا الشرح (وعلوماً) باطنية، كعلم أحوال القلب، أما ما يحمد منها فهو الصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا، والزهد والقناعة ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال وحسن الظن، والإخلاص ونحو ذلك، وأما ما يذم فخوف الفقر وسخط المقدور، وطلب العلوم وحب الثناء، وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع ونحو ذلك (ومكاشفات) وهي غاية العلوم، وهي عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله تعالى، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله وبحكمه في حكم خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا (وقد أودعناها في كتاب إحياء علوم الدين فاشتغل بتحصيله) أي كتاب الإحياء لتكون من أهل الظاهر والباطن معاً، فقد قيل: علماء الظاهر، زينة الأرض والملك، وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت، وقال السري للجنيد: جعلك الله صاحب حديث صوفياً، ولا جعلك صوفياً صاحب حديث، وأشار بذلك القول إلى أن من حصل الحديث والعلم، ثم تصوف أفلح، ومن تصوف قبل العلم خاطر بنفسه (وإن رأيت) أي وجدت (نفسك تستثقل العمل) أي تعتقد ثقل العمل (بهذه الوظائف) أي الأوراد التي ذكرت في هذا الكتاب (وتنكر) وفي بعض النسخ وتترك (هذا الفن) أي النوع الذي في هذا الكتاب (من العلم) أي علم التصوف (وتقول لك نفسك أنى) أي كيف (ينفعك هذا العلم في محافل العلماء) أي مجامعها (ومتى) أي في أي وقت (يقدمك هذا على الأقران) جمع قرين وهو من يعادلك في أحوالك (والنظراء) جمع نظير وهو ما يساويك في الدرجة (وكيف يرفع) أي هذا العلم (منصبك) أي علوك (في مجالس الأمراء والوزراء وكيف يوصلك إلى الصلة) أي العطية منهم (والأرزاق) أي المرتبة من عندهم كل شهر أو كل سنة (وولاية الأوقاف والقضاء فاعلم أن الشيطان قد أغواك) أي أضلك (وأنساك منقلبك) بضم الميم وفتح القاف واللام أي مرجعك (ومثواك) أي منزل وهو الآخرة (فاطلب لك شيطاناً مثلك ليعلمك ما) علماً (تظن أنه ينفعك) في الدنيا (ويوصلك إلى بغيتك) بكسر الباء وضمها أي حاجتك (ثم اعلم أنه) الشأن (قط لا يصفو لك) أي لا يخلص من الأكدار (الملك) أي العز (في محلتك) أي منزلك (فضلاً عن قريتك وبلدتك ثم يفوتك الملك المقيم) أي الدائم الذي لا ينعزل (والنعيم الدائم) أي المستمر الذي لا ينفد (في جوار) بكسر الجيم (رب العالمين) أي في الجنة مجاورة معنوية والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. تم تأليفه بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ليلة الأحد ثالث عشر ذي القعدة من سنة ألف ومائتين وتسعة وثمانين على يد المذنب المقصر محمد نووي بن عمر بن عربي بن علي عفا الله عنهم آمين.
----------------------------------------------------------------------------------

1 komentar:

  1. Tithmium Industries - The best place to buy titanium trim
    Tithmium Industries is the largest titanium bikes for sale supplier of graphite ford edge titanium 2019 engineering babylisspro nano titanium spring curling iron supplies for industrial and ford escape titanium engineering, providing high 2020 edge titanium performance steel for

    BalasHapus